سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

العولمة والمجتمعات التي أذابتها

سامر عثمان –

تعني العولمة في معناها اللغوي العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلد بعينه، كأن تُصدّر حضارة بلد إلى بلد آخر لتستحوذ على مكانة الحضارة الأساسية فتنهيها. يظهر وجه العولمة الحقيقي في الهيمنة على المجتمع بأشكالها كافة؛ أي قد تبدأ بالاقتصاد فتنتهي بالسياسة والعسكرة وغيرها. تلك هي العولمة تظهر لك للوهلة الأولى إنها حامية فعلاً للحريات كما تُنصب نفسها رديفة للديمقراطية غير إنها في المضمون شيء آخر لأنها ليست سوى هيمنة القوي على الضعيف.
لكن كيف وصلت إلى هذه القوة وسرعة الانتشار؟!، في الحقيقة اعتمدت الدول الرأسمالية على أساسيات معينة مثل إضعاف قوة إقليمية وخلق قوة أخرى تابعة لها، إضعاف ميزانية الدول الغنية عبر الاجتياح التجاري بالموارد الطبيعية، فاليابان مثلا تستورد95% من نفطها مما يسهل التحكم في تجارتها. بينما إجمالي الدول في الشرق الأوسط تفتقر إلى أبسط أساليب الإنتاج الصناعي، ولديها الموارد الطبيعية الكافية من نفط وقطن وحبوب مما يجعلها منطقة تجارية هامة لتوريد البضائع الصناعية من آليات زراعية وسيارات، ولهذا السبب نجد العولمة تدافع عن مبدأ حرية التجارة العالمية وللسبب نفسه؛ اُفتتحت منظمة التجارة العالمية سنة 1995 وبدأت بتنميط الأنظمة التجارية وفرضت قوانين سياستها على المجال التجاري، هذه هي العولمة، ولكن ما تأثيرها على مجتمعنا وصناعتنا وطرق عيشنا وتراثنا؟؟
العصور الحديثة رائدة لسياسات ترمي في ظاهرها نوعاً ما إلى السلام وفي الباطن كهوف مليئة بالوحوش البشرية والأشباح ، حرب الصناعة والاجتياح الثقافي والتغيير اللغوي لأعراق وأقوام بشرية ربما كانت ذات تاريخ عريق ذات يوم كالأمازيغ الذين بات استجماع لغتهم شيء من ضروب الخيال.
هذه الحرب أكثر بشاعة وجشعاً من أي وقت مضى، إنها العولمة وحبال الربط التي تقيد حريتك الفكرية والوثنية والعرقية بقيود التبعية لحضارة أنت نفسك منبهر بوجودها بين يديك، فهي الشطر الأول والأساسي لسياسة الاجتياح الفكري الذي يسبق الاقتصادي ثم السيطرة السياسية والعسكرية على بلد؛ كل ما أراده هو ركوب أمواج العولمة.
باتت مغريات العولمة من أولى متطلبات العيش في الشرق الأوسط فالهواتف النقالة ومواقع التواصل تعطيك للوهلة الأولى بأنه الثغرات التي يجب أن تستغلها بأسرع وقت، غير إنها في الباطن تخفي سياسات كفيلة بتدمير قارة بأكملها عبر تدوينه على مواقع التدوين المصغرة كالتويتر والفيس بوك كما حصل ويحصل في البلدان العربية، ناهيك عن أزياء الموضة التي اتلفت فلكلور وتراث الكثير من البلدان. ليس هذا الفلكلور المنسي بالقليل فهو من الحجارة التي تكون أساس مجتمع من المجتمعات والحال هذه، فالموضة وتتبع الأزياء الجديدة ستكون من الأمور التي تشغل الكثير من المجتمعات التي دخلتها هذه الثقافة الزائفة، ليس هذا فحسب بل ستحوله من مجتمع كان مكتفياً بالصناعة المحلية إلى مجتمع يقضي على صناعة بلاده ويبدأ بانتظار كل جديد ترسله الدولة المعولمة لثقافتها، كالمريض الذي ينتظر حقنة مهدئة لعقله المغرم بتلك الثقافة.
إلى جانب كل هذه السيطرة على العقول تسيطر العولمة على الاقتصاد لتكون الدولة إلى جانب سكانها مقيدة بقيود العولمة وشروطها. والسؤال هنا هل سنكتفي بطرح المشاكل دون الحلول، أليس في بلادنا صناع وحرفيين وخبرات هندسية تعلو على أرجاء العالم، أليس معيباً أن تستورد 60 دولة “القداحة” من الصين! أليس لباس سيدات الشرق كان مضرب لمفاخر الجمال في الغرب!!.
كيف نبدأ بصناعة محلية؟!
الصناعة المحلية ستكون نبذة البداية ببناء مجتمع خالص من شوائب التبعية وهذه أولى الميزات فيها أما الميزة الثانية فهي الاكتفاء الذاتي لمجتمعنا وتنقيته من شرور البطالة إلى جانب ازدهار المدن، فالمواطن العامل ليس كالمواطن العاطل عن العمل، وأما الثالثة فهي أولى بوادر الاعتماد على الذات الاجتماعية الأمر الذي ينتج مجتمعا نقياً قادراً على بناء ذاته وحمايته، وأما الرابعة فنحن نبيع المواد الخام بأرخص الاثمان بينما نستطيع استعمالها في الصناعات المحلية فنكون قد جنبنا اقتصاد البلاد الكثير من المصاعب، فالمواد التي نصدرها لن تدخل بالمردود الذي نستورد فيه، تماماً كالذي يعطي ذهباً ويأخذ مكانه التراب وبالقيمة المادية نفسها.
بهذه السياسة المصدرة والمستوردة ليس فقط تبقى بلداننا بحاجة إلى أسواق، بل تتدهور عاماً تلو الآخر كما حصل في تركيا ويحصل في بلدان الشرق أوسطية كافة، هذه البلدان التي تمتلك أفضل أنواع المواد الخام من النفط، الألماس، النحاس، الفضة، والذهب. فإذا ما تداركت هذه الدول نفسها في الوقت الحالي ودعمت سياسة البناء الداخلي ستجتازها سياسة العولمة ؛ ذلك لأن الشرق الأوسط الآن في أوج قوته المادية من ثروات باطنية وظاهرية كالنفط والحبوب.
إن البدء بالصناعة المحلية لا بد أن ينطلق من أبسط الأدوات كالخياطة والحياكة واستجماع الحديد والنايلون والكرتون من مواد يمكن إعادة تكريرها، بدلاً من تصديرها إلى الصين لإعادة شرائها من الصين مواد مصنوعة من جديد.
العمل على هذه المواد يعود بمردود كبير يمكن من خلاله خلق مصانع كبيرة تلبي الطموحات المحلية بدل من استيراد مكنات وآليات بأثمان باهظة ربما تشكل هذه الأموال ديونا تقسم ظهر الدول عصور من الدهر كما حصل في ليبيا ويحصل في تركيا. إن الذي نطمح إليه هو الخروج بحلول من داخل المجتمع ليشارك المجتمع في بناء اقتصاده وازدهاره، على عكس المجتمعات الكسولة التي تستورد فحسب، إلى جانب هذه الصناعة صناعة المواد المعلبة التي أخذت قسطاً كبيراً من أسواقنا، فبدلاً من استيراد المواد المعلبة بإمكان دول الشرق تعليب كافة موادها عوضاً عن إرسال خبراتها للعمل في مناطق أخرى تسيطر على بنيتها.
لماذا تهددنا العولمة؟!
إن أكثر الدول التي تروج للعولمة هي الدول التي تستخدم البراغماتية في سياساتها، وهذه الأخيرة تفرض الإنهاء بعد انتهاء الحاجة، فالبراغماتية نظرية مادية بحتة كل ما تعنى به هو إشباع جوعها وتعطشها إلى النمو الفاحش اقتصادياً، سياسياً، وعسكرياً وعليه فمتى ما ازدهرت وأنهت مصالحها تخلصت من الدولة التي بترتها مالياً وعسكرياً واجتماعياً، والأمثلة كثيرة كما في اليمن مصر ليبيا والعراق وسوريا.