يومًا بعد يوم يزداد العالم جنونًا ووحشيّة، ولا يكاد يهدأ جانب من جوانبه حتى يثور جانب آخر، ولا تكاد تبرد منطقة حتى تستعر أخرى. لا فرق بين عالم أول متحضر أو عالم ثالث متخلّف. الكل على كف عفريت والكل في الهوا سوا حين يتعلق الأمر بالحرب والخراب والاعتداء وارتكاب المجازر ونهب الثروات.
ثلاثون ألف عام انقضت منذ أن بدأ للإنسان نشاط اجتماعي واقتصادي وسياسي على وجه الأرض، وبدأت تتشكل له حواضر وتجمعات عمرانية جعلت منه كائنًا متحضرًا. ثلاثون ألف عام تفصل الإنسان الحالي عما كان عليه ككائن بشري همجي ليصبح كائنًا مستأنسًا.
ملايين الكتب والمقالات دوّنت، ضمت مليارات الأفكار والفلسفات والنظريات حول السلم والتعاون والوفاق. ملايين المُصلحين والمصلحات والصالحين والصالحات الآباء منهم والأمهات عاشوا وماتوا يدعون للخير ويحضّون عليه، ويمنعون الشر ويحذرون منه، لكن لا فائدة.. الإنسان ككائن حي يُثبت كل يوم /للأسف/ أنه كائن همجي لا يقل قسوة عن وحوش الغاب ولا يزيد فهمًا عن فيروس أحادي النواة.
لا نتعلّم من الدرس
خرجنا قبل ثمانين عامًا من أكبر حرب عالمية اندلعت بعد ربع قرن من ثاني أكبر حرب عالمية في قرن واحد وفي قارة واحدة هي القارة الأوروبية. راح ضحيتهما أكثر من ستين مليون إنسان خلال أقل من عشر سنوات. واستهلكت أموالًا وثروات لا يُمكن تقديرها، لكنها على الأقل تكفي لجعل كل سكان العالم “اليوم”أثرياء”.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية اندلعت آلاف الحروب في كل بقاع العالم، ومنها حروب أهلية وإقليمية، وقد استهلكت أكثر من أربعين مليون نفسًا بشريّة. كما دمّرت وخرّبت أكثر من خمسين دولة منها على الأقل عشر دول عربية، ثم فضلاً عن الخراب والدمار والتشرد يعاني مليارات الناس بسبب الفقر والجوع والأمراض وإصابات الحرب، وكل ذلك ناجم عن الحروب نفسها التي لا تتوقف، وإن خَفَّ أزيز الرصاص وانخفض دوي المدافع والقنابل، لكن القتل والتدمير مستمر لا يتوقف وبطرق شتى بعضها لا يخطر على بال عاقل.
عالم مجنون
وفيما حاولنا التماس العذر لإنسانيتنا وعقلانيتنا إن الحروب القديمة أطلق شرارتها الأولى مجانين وسفهاء ومجرمون.. لا نجد اليوم مبررًا لحروب تطلق شرارتها مجالس برلمانية وحكومات مُنتخبة ودول مُتحضّرة وجيوش متطورة ورؤساء علمانيون بربطات عنق حريرية وبدلات أنيقة. أي تحضّر وأي تطور ذلك المنصبّ على السلاح وأدوات القتل والفتك؟
ولماذا تنفق الدول الكبرى حول العالم أكثر من نصف ثرواتها على السلاح والتسلّح والصناعات والعلوم المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والكامل؟ فيما تنفق الدول المتخلّفة معظم ميزانيتها على أدوات الحرب والقمع من أسلحة وذخائر وسجون؟ ولنا أن نتصوّر أن أعظم دول في العالم حالياً فيها 1924 جامعة فيما تمتلك أكثر من 533 قنبلة نووية، ولنتخيل دولة كليبيا فيها سيارة إسعاف واحدة مقابل كل ثلاثة آلاف سيارة عسكرية.
لماذا ما تزال وظيفة العسكري والشرطي هي “الوظيفة الأولى” في كل دول العالم من حيث الأهمية والاحترام والأجر؟ متى سيكون للعالم والطبيب والمعلم مكانته على الأقل في الدول المتقدمة و”المتحضرة”؟ ومتى يمكن للمرأة أن تنال فرصة للتعلم أو التوظف أو حتى المناصب الأولى.. حتى في الدول التي تحتل مصافِ الدول المتقدمة والمتحضرة؟
متى يمكن أن نشهد ولادة دولة متحضرة تركز سياستها على النزاهة والسلام، واقتصادها على الكفاية والتنمية المستدامة، وإمكانياتها على سعادة ورفاهية شعبها؟
طريق باتجاه واحد
في المدى المنظور.. الإنسانية ذاهبة إلى الهاوية وإلى حروب طاحنة ستُنهي الحياة والحضارة على هذا الكوكب البائس المنهار قبل أن يُنهيها الاحتباس الحراري أو التلوث الكربوني أو نيزك عملاق قد يصل إلينا في أي لحظة. ولا أعتقد أن محاولة البحث عن ملاذ آمن على القمر أو المريخ يمكن أن تُجدي نفعًا، حتى وإن نجحت. لأن الإنسان الذي دمّر حياته ومستقبله بيده على الكوكب الوحيد القابل للحياة الذي يعرفه؛ يستحيل أن يُقيم حياة محترمة آمنة على كوكب غير قابل للحياة ومعرض للخطر كل لحظة. ولنا أن نتصوّر أن كل المشاريع الدولية لاستعمار الفضاء تقوم في المقام الأول على إمكانية نقل الأسلحة وتقنيات التسليح إلى المستعمرات الفضائية التي يُعتزم إنشاءها!
الحل..
الحل نفسه مشكلة أخرى بل معضلة، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بحرب (ضحكة) تقضي على الأشرار المثيرين والمشعلين للحروب. وهذا بحد ذاته حرب أخرى تحتاج أشرارًا من نوع جيد، وهذا مستحيل عقلًا ومنطقًا، فهل سنبقى في دائرة العذاب والقلق أبد هذه الحياة؟ لكن بصيص الأمل لابد سيُلوح في زاوية ما من هذه العتمة المطبقة!