سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الصراع بين الفصحى والعامية بلا انتصار ولا هزيمة

إعداد/ هايستان أحمد-

يثير كتاب الناقد المصري صلاح فضل “شعراء العامية من السوق إلى المتحف”، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، قضية إشكالية رئيسة يتجاوز عمرها القرن، وما زالت حربها مشتعلة رغم زوال أسباب اندلاعها.
ويعد الكتاب دعوة من صلاح فضل لإيقاف صراع عبثي، فمنذ القدم لم تكن اللهجات العامية، تثير مشكلة أو ينظر إليها على أنها لغة تنافس اللغة الفصحى، فالعامية ظاهرة في كل اللغات، وقد لازمت العربية منذ أقدم عصورها، كما أن اهتمام العلماء العرب القدماء بدراستها؛ كان جزءاً من اهتمامهم بالفصحى. فرائد النهضة في مصر رفاعة رافع الطهطاوي لا يجد حرجاً في أن يدعو إلى ضبط اللغة العامية، والتصنيف بها على أن يكون في موضوعات معيَّنة، تتعلق بمصالح العامة، وبيَّنها في حرص شديد في كتابه “أنوار توفيق الجليل”، وهناك كثر دعوا إلى العامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لكنهم لم يكونوا معنيين باللغة العامية لذاتها؛ وإنما لجأوا إليها؛ رغبة في أن تكون عنصراً من عناصر التفاكه والإضحاك، الذي يخفي وراءه نقداً لاذعاً لحياتنا الاجتماعية، والسياسية، ووسيلة لتثقيف العامة، واطلاعهم على أحوال البلاد السياسية والاجتماعية.
دور المُستشرقين
لكن هذه النظرة المسالمة بين العامية والفصحى تغيَّرت، حينما تدخَّل المستشرقون، لتبدأ قبل نحو 140 عاماً حرب شعواء ما بين أنصار الفصحى والعامية. فالخلاف يمكن أن نرصد بدايته مع  المستشرق وِلهِم سبيتا، الذي ألَّف كتاباً عن قواعد العربية العامية في مصر عام 1880، وهو أول كتاب أجنبي يتحدث عن العامية المصرية، وشكا في هذا الكتاب صعوبة العربية الفصحى، كما أنه اقترح اتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة العامية. دعا سبيتا إلى استخدام العامية كلغة أدبية، مشيراً إلى أن التزام الكُتّاب بالعربية الكلاسيكية، لا يمكن أن ينمي أدباً حقيقياً؛ لأن الطبقة الضيقة المتعلمة؛ قليلة العدد، هي الوحيدة التي يمكن أن يكون الكتاب في متناولها.
والكتاب الثاني في هذا المجال، كان لكرلفولوس الألماني سنة 1890، بعنوان “اللهجة العربية الحديثة”. وتتالت بعده كتب المستشرقين المطالبة بإقصاء الفصحى، وأن تحل العامية مكانها. وأشد هذه الهجمات على الفصحى كانت من قِبل وليم كوكس، مهندس الري الإنجليزي بمصر عام 1883، إذ دعا إلى استخدام العامية المصرية في الكتابة، ومحاربة الفصحى، بل زعم أن الفصحى في مصر ليست لها علاقة بالعامية المصرية، وإنما أصلها اللغة البونية أخت اللغة العربية. وكان كوكس يرى أن اللغة العربية التي يتعلمها المصريون، هي لغة ثانية ثقيلة في كل شيء وإن وصلت إلى الرأس، فهي لا تصل أبداً إلى القلب.
ولاقت هذه الدعوات هجمة شرسة من المصريين؛ من أجل الحفاظ على الفصحى باعتبارها لغة دينية، وقومية، وكان الأساس النفسي لمعارضة الدعوة إلى العامية هو الشك في نية المنادين بها، في وقت أصبح الاستعمار هو المسيطر على مقدرات الحياة في مصر. ورغم انتفاء السبب إلا أنه حتى الآن ما زال الصراع مستمراً، وإن كان منطلقه في البدء هو التشكك في نية المحتل، فإنه الآن ينطوي على التشكيك في نية المنادين بتقديم العامية على الفصحى حتى وإن كانوا عرباً.
ويتناول الكتاب الذي يقع في 230 صفحة من القطع المتوسط، بالتحليل، مجموعة من أشعار أساطين الشعر العامي في مصر يبدأها ببيرم التونسي، الذي يستحوذ وحده على أكثر من نصف الكتاب، ثم يحلل قصائد لكل من فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي في النصف الآخر منه.
ويطرح الكتاب بين ثناياه العديد من القضايا المهمة، وأول ما يلفت فيه هو عنوانه الفرعي: “من السوق إلى المتحف”، ذو الدلالة الثنائية التي قد تحيلك إلى المدح أو الذم، بحسب إرادة ومقصد المتكلم. فالمتحف قد يوحي بأن الشيء قديم، وقد عفا عليه الزمن، ولم يعد له استعمال، وتكمن قيمته الأساسية في تاريخيته. أما الدلالة الثانية وهي المقصودة فتتعلق بالمعنى الإيجابي للمتحف الذي يحفظ ما لا يقدر بثمن من كنوز بشرية.
ولا يفوت فضل أن يستنبط من القصائد التي يحللها رؤية هؤلاء الشعراء الحياة، وأهم تقنيات شعرهم الأسلوبية، مثل اعتماد بيرم في بعض قصائده على الهجاء العنيف أو الغزل الصريح، والحس المسرحي في أعماله. وهذا ليس بعجيب على بيرم الذي دخل عالم المسرح مبكراً وله عدة مسرحيات منها أوبريت “شهرزاد”، التي لحنها سيد درويش، وهناك مسرحية “ليلة من ألف ليلة” ومسرحية “عقيلة” ومسرحية “عزيزة ويونس”. وحين يتحدث فضل عن فؤاد حداد فإنه يتناول الروح الصوفية العصرية في إبداعه، وقوة صوره ورهافتها الشاعرية، ويلاحظ ما في شعر صلاح جاهين من فكاهة، وكذلك الحس الفلسفي في رباعياته، وعند عبد الرحمن الأبنودي يبرز السردية في شعره، وقدرته الفريدة على “تشعير الحكي”.
ومن الجمل الجديرة بالمناقشة داخل الكتاب قول فضل في وصف صلاح جاهين، بأنه “ارتفع بشعر العامية من مقام الزجل إلى آفاق الشعر”. وهو قول يكثر فيه الحديث، وإن كنت أرى أن الفضل يعود في ذلك إلى أستاذ صلاح جاهين ألا وهو فؤاد حداد، فهو الذي رفع شعر العامية من الزجل إلى مقام الشعر، فأصبح يتناول في شعره العامي ما يتناوله شعراء الفصحى، بل إنه حمَّل العامية الإبداعية أفكاراً فلسفية وإنسانية لم يكن يوماً يتخيل أنها قادرة على حملها.
انتصار للعامية واعتذار مُبطن
وأهم ما يحسب لهذا الكتاب أنه ينطوي على تحليل لقصائد العامية لا يقل عمقاً عن تحليل قصائد الفصحى، وبذلك يبرهن صلاح فضل على أن الإبداع ينبغي أن يتم تناوله بجدية بصرف النظر عن طبيعة اللغة التي كتب بها، وأنه ليس هناك صراع بين الفصحى والعامية، وإن كان هناك صراع فهو صراع تكامل لا تناحر؛ فلكل لغة ما يناسبها من موضوعات. وهو ما يؤكده فضل في كثير من جمل الكتاب، فيقول، إن العامية المصرية في أغاني أم كلثوم التي ألَّفها لها كبار الشعراء بعامية مفصحة، عزَّزت من دور الفصحى، ولم تكن حرباً عليها، أو نكاية فيها، بل إنها جعلت من اللهجة المصرية العامية موازية للهجة قريش بين القبائل المختلفة قديماً.
كما أنه يشير إلى أن العامية لها إبداعها، لكنها غير قادرة على الترجمة، لأنها عاجزة عن احتواء الأبعاد الفكرية والفلسفية العميقة، كما أنها معوقة للقراء ومشتتة للصف العربي، كما نجد أكثر من عبارة داخل الكتاب، ذات دلالة تكشف عن عشق فضل؛ عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، للفصحى، وكأنه يعتذر بشكل ما عن تناوله العامية، التي جعلت أمير الشعراء أحمد شوقي من قبل يخشى على عرش إمارته من بيرم التونسي. يقول صلاح فضل في هذا الصدد: “كي يقبل مثلي على قراءة روائع شعر العامية دون أن يشعر بأنه يخون الفصحى الأساسية”، ويقول، “لكن أرجو ألا يظن القارئ أني أعدل عن عشق الفصحى أو أُشرك بها العامية”.