“لكل مقام مقال، ولكل زمان رجال”، قول مأثور أو حكمة، لكنها تختزل الكثير من الكلام. معظم شعوب العالم خاضت حروباً من أجل التحرر من الاستعمار والاحتلال، حتى تلك الدول التي كانت تستعمر وتحتل شعوباً، وقعت هي نفسها في يوم من الأيام تحت الاحتلال (فرنسا، والاحتلال الألماني). وقد استخدمت هذه الشعوب الكثير من الطرق والوسائل من أجل تحررها والوصول إلى الاستقلال.
لكن نضال شعبنا الكردستاني وبقيادة طليعته حركة حرية كردستان، يختلف بشكل كبير عن طبيعة نضال بقية شعوب العالم، فمن جهة، نحن الشعب الوحيد الذي قُسّم وطنه إلى أربعة أجزاء، وكل جزء تحتله دولة قومية ذات نظام قمعي استبدادي عنصري. ومن جهة أخرى، كفاح ونضال قوات الكريلا يختلف عن بقية المقاومات للشعوب الأخرى. الكريلا يتركون كل شيء (العائلة، الزواج، المال، المنصب، الثروة، الخ) ويلتحقون بصفوف الثورة مؤمنين بفكر وفلسفة الحياة الحرة. مقال اليوم مخصص للحديث عن أحد قادة المقاومة الأبطال الذين تركوا بصمة في الحياة وحسرة في قلوب الملايين. إنه قائد تحرير شنكال البطل الشهيد عكيد جفيان.
من بلدة كفر إلى كل كردستان
فشلت وانهارت ثورة شعبنا الكردستاني في باشور كردستان سنة 1975، وحدثت ولادة طفل، فكانت له قصة بطولة وأسطورة مع الأيام. ولد الشهيد وحي الدين كايا (عكيد جفيان) في العام 1975 في كفر بباكور كردستان، عاش مثل بقية رفاقه حياة مليئة بالعذاب والظلم وقساوة العيش في ظل الظروف الطبيعية الصعبة والقاهرة. جبال كردستان تغطيها الثلوج في الشتاء القارس، وبكميات كبيرة تقطع أوصال القرى، والمدن عن بعضها البعض. تشتهر منطقة كفر (جولميرك) بجبالها الوعرة، والتي تغطيها الثلوج معظم أيام السنة، عاش وحي الدين كايا بين هذه الجبال التي عشقها وفي العام 1993 وفي عمر الثامنة عشرة التحق بحركة حرية كردستان فأصبح مناضلاً في صفوف قوات الكريلا بعد تلقيه تدريبات عسكرية وفكرية في أكاديمية الشهيد معصوم قورقماز في لبنان. حارب العدو في مختلف أجزاء كردستان بروح فدائية منقطعة النظير. كيف لا وهو تلميذ القائد والمفكر الكبير عبد الله أوجلان.
شنكال العشق والحقيقة
تحدث القائد أوجلان عن المجتمع الإيزيدي كثيراً، والشيء الذي يجمع القائد بالمجتمع الإيزيدي هو حرب العشق والحقيقة، وهو أشار كثيراً إلى وجود المجتمع الإيزيدي وسماه “ثقافة الجذر”. أي الأصل والأساس، فهو يدعو دوماً إلى عودة الإنسانية إلى جذورها، وقيمها النبيلة الأصيلة المنبثقة من أخلاق المجتمعات”.
خلال فترة تواجده في العاصمة الإيطالية روما، كثيراً ما كان القائد يتحدث لزائريه، عن قصة وملحمة درويشي عفدي وعدولة، حيث يقول: “عندما استمعت إلى قصة درويش عفدي وعدولة تولّد في قلبي عشق كبير. فهمت أن درويش بطل كردي حارب بكل بطولة وبسالة ضد العثمانيين، وهو قائد كردي في عصره، وبموته بقي الكرد بلا قائد. وأنا أطور وحدة الكرد وأقوم بالقيادة أيضاً، رأيت أن التاريخ يتكرر من خلال شخصيتي ووقفت كثيراً على كلام عدولة، وقلت يجب أن نغير هذا القدر”.
تلبية نداء شنكال
“لو كانت كردستان كلها حديقة جميلة، فإن الإيزيديين هم الزهور الأكثر جمالاً في هذه الحديقة”؛ بهذه العبارة يبدأ الشهيد الكبير عكيد جفيان كتابة مذكراته في الأيام الأولى لمجيئه إلى شنكال، فقد كان ضمن 12 مقاتلاً، الذين هبّوا لنجدة شنكال بعد سماع صرخة استغاثة المجتمع الإيزيدي من الهجوم الوحشي والهمجي من نفسه “الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش”. خاصة بعد هروب من كان عليه أن يحميها، وهم “مرتزقة” الحزب الديمقراطي الكردستاني، ولا يجوز أن نطلق عليهم اسم البيشمركة؛ لأن البيشمركة قاتلوا فيما بعد جنباً إلى جنب مع قوات الكريلا من أجل تحرير شنكال. عكيد جفيان توجه صوب شنكال بروح درويشي عفدي لكي يحرر عدولة من قبضة المرتزقة. حارب ببسالة وشجاعة نادرة واستطاع إلى جانب رفاقه أمثال الشهيد مام زكي وزرادشت شنكالي.
قيادة تحرير شنكال
كان هدف القدوم إلى شنكال هو حماية المجتمع الإيزيدي من الإبادة وإنقاذ الأرواح، التي كانت على وشك الهلاك أمام جحافل الطغيان الأسود. وبعد أن تم إنقاذ ما يزيد عن 200 ألف إيزيدي من الموت المحتوم، تفرغ القائد عكيد جفيان إلى تنظيم الشبان والشابات الإيزيديات لتدربهم على كيفية حماية مجتمعهم حيث تم تأسيس وحدات حماية شنكال، التي أصبحت فيما بعد قوة لا يستهان بها، وساهمت إلى حد كبير في حملة تحرير شنكال.
في مقابلة لقناة “روداو” عام 2016 مع قائد مقاومة وحملة تحرير شنكال، أكّد القائد (عكيد جفيان) أن قدومهم إلى شنكال ليس لأسباب سياسية إنما جاء لأسباب أخلاقية، إنسانية، ووطنية. وأن الهدف من مجيئهم إلى شنكال هو حماية المجتمع الإيزيدي من الإبادة وتحرير شنكال من رجس الإرهاب، وأضاف جفيان “قد مرّ عامان على كارثة شنكال، وإلى الآن استشهد 215 من مقاتلينا، كما نستذكر رفاقنا من البيشمركة، وكذلك من الكرد الإيزيديين، الذين استشهدوا هنا”.
الاستشهاد في “وان” قلب كردستان
أعلن حزب العمال الكردستاني عبر بيان رسمي عن استشهاد عضو مجلس قيادة قوات الدفاع الشعبي HPG، والقائد الإقليمي في منطقة بوتان، عكيد جفيان يوم الأحد 11 أيلول 2020 برفقة جان فيدا كوي، وهبون كري سبي، خلال المعارك التي خاضوها ضد جيش الاحتلال التركي في ميدان ماسيرو بناحية شاخي التابعة لولاية وان في باكور كردستان. وأضاف البيان أن عكيد جفيان ورفاقه قرروا “تنفيذ عملية ضد جيش الاحتلال التركي في المنطقة، وقد تمكنوا من إلحاق خسائر كبيرة بالجيش التركي فقتل منهم عشرة عناصر من بينهم خمسة ضباط، ودمروا مواقع العدو، فتدخلت مروحيات الجيش التركي، ونفذت عمليات قصف مكثفة؛ ما أسفر عن استشهاد قائد منطقة بوطان عكيد جفان والمناضلين هبون، وجان فيدا”.
مراسيم الدفن تحت الحصار
بعد أن استلمت عائلة الشهيد جثمانه الطاهر من معهد الطب العدلي في وان، تم نقله إلى قريته في منطقة كفر. فطوق المئات من جنود الاحتلال التركي القرية من الجهات كلها، ومنعوا الجماهير من المشاركة في مراسم دفن الشهيد. سمحوا فقط لثلاثة من عائلته بالقيام بالمهمة. حتى وهو مسجّى وشهيد، أرعب العدو، وأدخل الخوف إلى قلوبهم، فمنعوا الأهالي من الوقوف إلى جانب عائلة الشهيد.
أمنيات الشهيد الكبير
يُذكر أن القائد الشهيد قد قال في إحدى مقابلاته مع قناة الجزيرة العام 2013: “حتى لو انتهت مرحلة السلاح في حياة الكريلا؛ فإن نضالهم سيستمر وهو شخصياً سوف يقوم بزيارة أجزاء كردستان، ويتعرف على المجتمع الكردستاني، وكذلك في كل منطقة من العالم قامت بها الثورة كأمريكا اللاتينية، والشرق ويريد أن يجري مقارنة بين ثورة الشعب الكردستاني، وثورات تلك الشعوب… باختصار سأبقى في خدمة شعبي”.
كما قال في إحدى مقابلاته مع قناة ستيرك: “في حال انتصرت الثورة الكردستانية، وتحققت حرية الشعوب في هذه المنطقة، فإني سوف أتي إلى قمة جبل من جبال كردستان سواء في طوروس أو زاغروس، وسوف أتذكر الرفاق، الذين استشهدوا في هذه الثورة، وأذرف دموعي حتى تنضب واستمع إلى الأغاني التراثية الكردية”.