خرائط الدم التي بنيت على طاولة سايكس بيكو في الشرق الأوسط تم تغذيتها بانقساماتٍ مقيتة من الاستبداد والطائفية والمذهبية والقبلية ومحاربة الأهلي وغياب السلم المجتمعي والتهافت على السلطة وانهيار مؤسسات الدولة الوطنية والحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية على حساب شعوب المنطقة وتطلعاتهم والسعي للعيش المشترك الكريم.
مسارات الصراع في الشرق الأوسط باتت بالغة الكثافة والتعقيد، وتتسع دوائرها لتغرق العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وتتصاعد بانتظام المخاطر التي تواجهنا بها نحن شعوب هذه المنطقة الذين نحرم عملياً من الحق في الحياة وكذلك المخاطر التي تفرضها على السلم والأمن العالميين، ففي جعبة الشرق الأوسط، أولا، حرب ذات امتداد عالمي تشارك بها قوى كبرى ذات مصالح يتناقض بعضها وقوى إقليمية تتبدل أولوياتها وسياساتها بعنف، تتجاوز وحشيتها ودمويتها ما تراكم عربياً من فظائع وجرائم وخرائط دماء وتعتاش على بنية تطرف ديني لم تتغير خلال الأعوام الماضية وحقائق استبداد وظلم وتهميش تشتد وطأتها في الشرق الأوسط على نحو يومي.
الشرق الأوسط… قراءة عميقة
يرى القائد عبد الله اوجلان أن “الضررَ الأكبر الذي ألحقته الرأسمالية هو أنها كادت تجعل تعريف الحياة أمراً مستحيلاً ونظام المدنية المستتر وراءها أيضاً مسؤولاً مثلها عن هذا الوضع في وقت وصلت الاتصالات أوج قوتها، إلا أن عجزَ العلم حتى الآن عن تعريف الحياة وأواصرها الاجتماعية رغم تطوره الخارق هذا إنما يثير الذهول إلى حد بعيد”.
ومنذ القرن السادس عشر؛ تصاعدت قوة الاستعمار الانكليزي والفرنسي خاصة، وشرعت باستكشاف الشرق الأوسط، فنابليون والمدن الايطالية وعلى رأسها البندقية كانوا قد فتحوا الطريق جيداً من قَبل، فضلاً عن أن رأسمال اليهود الذي يعرف بالشرق الأوسط، كان يهتم استراتيجياً بالمنطقة منذ البداية ويدل أوروبا على الطريق، أي أن الرأسمال اليهودي كان متخصصا ومحترفا في معرفة الشرق الأوسط ومدركاً لاهتمامات كل من هولندا وانكلترا والبلدان الأوروبية الأخرى التي في المقدمة وكذلك أمريكا بالمنطقة. كما أن رأس المال عينه كان الدليل والخبير بنقل المعلومات في الاستقامة المعاكسة أي إلى أوروبا، إذ يتحرك اليهود في هذا المضمار كمجتمع قبلي تجاري خبير منذ أول خروج لهم من أورفا ومصر.
لقد تحركت احتكارية انكلترا والتي يمكن تسميتها أيضاً بالهيمنة أو النظام العالمي أو الاستعمار الرأسمالي أو الامبراطورية ضمن نطاق الميول ذاتها عندما قامت بانطلاقتها استناداً إلى دعاماتها الثلاثية ـ الرأسمالية ـ الدولة ـ القومية الصناعوية وتواجدت المنافسة والهيمنة وأزمات الهبوط والصعود على الدوام ونجحت في السيطرة على منافسيها وبسط نفوذ مركزها على الأطراف والخروج من دوامات الأزمة القصيرة والمتوسطة المدى، لكنها نجحت بالهيمنة على كثير من دول الشرق الأوسط ووصلت إلى دول شرق آسيا، فأصبحت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
فقد تحركت انكلترا بموجب المبررات الاستراتيجية نفسها في توسعها صوب الشرق الأوسط، فالحاجات العالمية للنظام هي التي حددت مقاربتها من المنطقة، ذلك أن ما تحمله من قيم استراتيجية من حيث موقعها على طرق مستعمرات الشرق الأقصى وفي مقدمتها بلاد الهند وكذلك الأماكن المقدسة والموارد الاقتصادية التي تحتويها المنطقة تعد الدوافع الأساسية للسيطرة وخطوة بخطوة عزز بسط النفوذ المتكاتف بدءاً من القرن التاسع عشر وأثناء خوض انكلترا صراع السيطرة على المنطقة.
الطبيعة الاجتماعية للشرق الأوسط تواجه أيضاً تناقضاً، حاضره واهن وتاريخه عملاق مارد، فحاضر المنطقة وكأنه فخ منصوب أمام تاريخه الجليل، وكل ما هو موجود من قيم تاريخية يتم شل تأثيره بإيقاعه في هذا الفخ، ولفتح الطريق أمام التاريخ العريق للمنطقة سيتوجب تجاوز حالة فخ الحاضر المنصوب هذا، المعنى الآخر للحاضر هو قابليته لحل القضايا فبقدر ما راكم التاريخ من قضايا فإنه يحشدها جميعاً أمام الحاضر، فبينما يصطفي ما يستطيع حله من بين كومة القضايا تلك محولاً إياها إلى حياة خالية من القضايا فإنه يحيل ما عجز عن حله إلى الحاضر اللاحق ولو تطرقنا إلى القضية اليهودية التي زُرِعَتْ في قلب مجتمعات الشرق الأوسط فقد أصبحت قضية عالمية وليست قضية اجتماعية شرق أوسطية.
إن الشعوب صانعة التاريخ، لكن المشكلة أنه لا تصنعه على هواها، وإنما تبعاً للظروف الموضوعية وقبل كل شيء تبعاً لأسلوب إنتاج الخيرات المادية المحددة تاريخياً وبما أن الإنتاج المادي يتحسن دائماً ويتطور من أدنى إلى أعلى فإن دورَ الشعب في العملية التاريخية يتغير هو الآخر، علماً بأن دور الشعب في التاريخ يزداد مع تطور البشرية التقدمي، وكلما ازدادت أعداد الناس المشتركين في العملية التاريخية، تعاظم نشاط الجماهير الشعبية ومع ازدياد الفعل التاريخي، يزداد كذلك حجم الجماهير التي يكون هذا الفعل من صنعها.
إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، فإن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي، ومن ثم التوجه لاستعمار دول الشرق الأوسط، ثم جاءت بعدها الحروب التجارية التي خاضتها الامم الاوروبية جاعلة الشرق الأوسط ساحتها، فقد اندلعت بانفصال هولندا عن إسبانيا، واتخذت أبعاداً هائلة في حرب انكلترا ضد اليعاقبة، وماتزال مستعرة في حروب الأفيون ضد الصين وهلم جرا.
لذا؛ فإن ما نتابعه اليوم في الشرق الأوسط هو نتاج ترسبات تلك الذهنيات التي حكمت العامل بقبضة من الحديد والمكر والخداع والوهم المتراكم في عقول الأنظمة التي تعاقبت لذا نرى انقساماً عمودياً لدى شعوب المنطقة والبحث دوماً عن حالة إقصاء ونفي وإبادة والابتعاد كل البعد عن حالة الإيخاء والتعايش والتشاركية وهو ما رسخته الأنظمة الرأسمالية التي حكمت العالم.
حرب غزة.. شرارة تغيير الشرق الأوسط
لقد أدت الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحماس إلى احتدام الوضع في الشرق الأوسط على نحو دراماتيكي فالغضب الشعبي يتصاعد، وتخشى كل من مصر والأردن أن تطرد إسرائيل الفلسطينيين إلى أراضيهما رداً على ذلك، شنّ اللاعبون من غير الدول في المحور الإيراني في المنطقة هجمات على نطاق أوسع، في دعم صريح لحماس والقضية الفلسطينية.
لقد ضربوا أهدافاً عسكرية إسرائيلية وأميركية، واستهدفوا سفن الشحن في البحر الأحمر وخليج عدن، بالصواريخ والطائرات المسيرة بالمقابل، ردت إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بضرب هذه المجموعات وحده وقف إطلاق النار في قطاع غزة يمكن أن يساهم بخفض هذا التصعيد الإقليمي.
لقد شكل الصراع المكثف بين القوى المدعومة من إيران، من جهة، والولايات المتحدة وحلفاوها، من جهة أخرى، إلى وقوع ضحايا عسكريين ومدنيين لكنّه لم يتسبب بمواجهة أكبر تشمل إيران نفسها، فقط لأن كلاً من واشنطن وطهران أشارتا إلى أنهما لا تريدان مثل هذا الصدام المباشر.
وعلى الرغم من بعض الاستهدافات التي تبادلها الجانبان “إيران وإسرائيل” إلا أنه لم يحدث ذلك حرباً أوسع، لكنها كادت أن تقع، لولا التصميم المتبادل على احتواء الموقف في بيئة من التوترات المفرطة وأزمنة ردود الفعل السريعة، قد لا يمكن احتواء الحادث التالي، ولا سيما إذا وقع فيه عدد أكبر من الضحايا، خاصة من المدنيون، أو المزيد من الجنود الإسرائيليين أو الأميركيين.
بينما يستمر الهجوم الإسرائيلي على القطاع، وتتسع رقعته في لبنان فإن مخاطر اندلاع حرب شاملة أو غيرها من حالات زعزعة الاستقرار تبقى مرتفعة، فمن غير الواضح إلى أي مدى يمكن لوقف إطلاق النار في المنطقة أن يُطبق على الأرض لكن بينما يستمر الهجوم الإسرائيلي؛ فإن مخاطر اندلاع حرب شاملة أو غيرها من حالات زعزعة للاستقرار تبقى مرتفعة.
وعلى الرغم من تعهد بعض قادة مجموعات “المحور” المدعوم من إيران بأنهم حالما يسري وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، سيعودون إلى وضعهم العسكري الذي كان سائداً قبل الحرب – أي قبل الوضع الراهن الذي فرضه السابع من تشرين الأول 2023، عندما شنت حماس هجماتها على البلدات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، الذي تحاصره إسرائيل، والتي أشعلت فتيل الحرب لكن ذلك لم يشفع لهم من عمليات الاغتيال الإسرائيلية التي طالتهم في لبنان وغزة من حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله الى إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس وتبعه خلفه يحيى السنوار.
وهذا إن نم عن شيء فهو ينم عن مدى إصرار إسرائيل في تغيير خرائط الشرق الأوسط التي لم تخفيها حقيقة ولم تذيع سراً عندما قالت إننا أمام تحولات ستقود الى شرق أوسط جديد، ليتسابق المحللون والمتابعون الى التأكيد على أن الأمور لن تذهب إلى تهدئة وأن الحلول يجب أن تكون جذرية لعدم استمرارية هذا الصراع وبدا الباحثون ينقبون عن خياراتٍ مطروحة لإنهاء الصراع في المنطقة والانتقال الى شرق أوسط أكثر أمناً وأماناً.
الشرق الأوسط وترسبات السلطة
تسوم سلطويات قديمة وجديدة شعوب المنطقة سوء عذاب القهر والظلم وانتهاكات الحقوق والحريات، ترتكبها أجهزة أمنية واستخباراتية تفرض عليها وظيفة رئيسية، هي حماية الحكام وليس حماية أمن الأوطان والشعوب فبعض تلك السلطويات تتورط في صراعات عنيفة على السلطة تهدد السلم المجتمعي.
وببعضها الأخير يسوده هدوء ظاهري يستند إلى تحسن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وتراكم الثروة والاستثمار التنموي لبعض مكوناتها، وخلف الهدوء توترات مجتمعية لها مسببات طائفية ومذهبية وقبلية وصراعات مكتومة على السلطة والثروة وتعريف الهوية الوطنية كما هو الحال في الخليج. لذا؛ فإنه وبينما يخلو الشرق الأوسط من منظومة إقليمية قادرة على الإدارة السلمية لمسارات الصراع الكثيرة وتتراجع به بقسوة الأدوار الفعالة لبعض البلدان صاحبة الثقل التاريخي والجغرافي والسكاني والحضاري مثل مصر والعراق وسوريا، وتتخبط بلدان أخرى بين حروب بالوكالة وسياسات خارجية إما عنيفة أو غير مستقرة كالسعودية والإمارات وقطر، تتسع مساحات فعل ونفوذ القوى من حزب الله إلى حماس وغيرهم وتتحول تدريجيا إلى تقاسم السيادة على الأرض مع الدول الوطنية.
ومع أن بعض مسارات الصراع الراهنة في الشرق الأوسط حضرت حين جاءت تداعيات إرهاب أيلول 2001 بالجيوش الغربية إلى أفغانستان والعراق، إلا أن حقائق شمولية وكثافة وتعقيد المسارات الراهنة تظل غير مسبوقة واليوم، تندفع القوى الكبرى والإقليمية التي تتجاهل الأدوات السياسية لمواجهة صراعات الشرق الأوسط إلى لحظة خطأ مأساوي جديد في منطقتنا.
الإدارة الذاتية والكونفدرالية… خيارٌ أمثل لإنهاء الصراع
لقد لجأت تلك الأنظمة إلى انتهاج المركزية، وفرض اللغة الواحدة، واحتكار وسائل القوة، متجاهلة التعدد والتنوع الذي يميز ثقافة المنطقة، والذي يمثل عامل قوة وغنى، وكذلك حرمت المجتمع من حقه في حماية ذاته، ما أدى إلى نشوب صراع بين الحكومة المركزية والأطراف جراء محاولات الحكومات المركزية، لإخضاع الأطراف، وما تمثل من تنوع ديني وعرقي ولغوي.
عوضا عن العمل على استيعاب الأطراف والآخر المختلف عرقيا ودينيا، وفقا للقيم الديمقراطية، لترسيخ مفاهيم الانتماء الطوعي للبلاد، ما يمكن من توظيف كل الطاقات لتنمية وتطوير البلاد.
بالرغم من بعض الإشكاليات التي كانت تأتي من السلطات الحاكمة، ظلت شعوب المنطقة عبر آلاف السنين تعيش في وئام وتتشارك في الحياة اليومية، والجغرافيا والتاريخ، وهذا التنوع يمثل مصدر غنى ثقافي، وكذلك يضفي مزيدا من القوة لشعوب المنطقة، وإضعاف أي من مكونات المنطقة، يسهم في إضعاف شعوب المنطقة ككل، وهذا ما تؤكده الوقائع التاريخية.
منظومة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، والتي انطلقت من خلال مشروع الأمة الديمقراطية الذي طرحه القائد عبد الله أوجلان، لتمثل، وبحق، نموذجا تطبيقيا لفعالية وصحة ونتائج المشروع الوطني الديمقراطي في سوريا، وأسست لسياق ونواة ديمقراطية في المنطقة، مكرسة لحياة مستقرة ديمقراطية ومؤسسات اقتصادية، وتعليمية، وصحية، وأمنية، وثقافية، ونسائية، وحل القضايا العالقة وغيرها، متجاوزة زمنها ومحيطها، ومنتهجة الديمقراطية المجتمعية، وحرية المرأة، والتآخي بين الشعوب، والدفاع والأمن الذاتي، والاقتصاد الذاتي المجتمعي. من خلال تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، يمكننا أن نقول: إن المجتمعات والشعوب في الشرق الأوسط، يمكنهم العمل والكفاح والتأسيس لبناء حياة ديمقراطية وحرة، يتحقق فيها الاستقرار والأمن والسلام، عبر السياق الديمقراطي المجتمعي، معتمدة على القوى الذاتية، لمجتمعات وشعوب المنطقة، ومنفتحة على أي تواصل وعلاقات وتوافقات وتفاهمات سيادية وندية، تضمن وتحفظ للمجتمعات والشعوب حريتها وكرامتها، وإدارتها الذاتية تخدم المصالح الحقيقية للمجتمعات والشعوب.
تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، باتت تمثل بحسب متابعين وسياسيين الحل النهائي والأمثل لجميع القوميات، من كردية وآشورية وعربية، وكذلك تؤسس لبناء تكامل إقليمي وكونفدرالية مشرقية، يعيش في ظل فضاء مجتمعي قائم على قبول الآخر، ومؤمن بالديمقراطية، والعيش المشترك.