كلما حاولنا أن نكتب عن مبدع شهيد، نجد أقلامنا تعلن الحداد عليه، وقافلة المبدعين الشهداء طويلة وطويلة جداً وهم أشبه بسلسلة من الذهب نذكر من حلقاتها؛ رستم جودي وغسان كنفاني وناجي العلي ولوركا والشاعر والمغني الشيلي الكبير فكتورغارا، الذين نذروا ومنحوا أرواحهم في سبيل أفكارهم وكلمتهم، وبذلك جسدوا وترجموا تلك الآراء إلى صور حيّة. حينما قررنا الدخول إلى عالم الشاعر الوطني والمغني والذاكرة التاريخية للتشيلي فكتور غارا الذي غنى للعمال والثورة والحرية ضد الظلم والفقر، والذي ملأ الدنيا بصوته وصوت غيتاره، هذا الغيتار الذي جعله فكتور قنبلة تنفجر في برج السلطة الفاشية التشيلية، وفي أقتم الفترات التي عرفتها تشيلي، وأي شرف أسمى من ذلك فكتب قصائد كثيرة تعري النظام الشيلي وحشيته وغنى هذه القصائد بصوته العذب مع أنغام غيتاره :
“أنا لا أغني لمجرد الغناء
أو لاستعراض صوتي
ولكن لكي أقول كلمتي.
أغني لرقعة مستطيلة من الأرض
ضيقة ولكنها عميقة بلا حدود”
أنه يغني من أجل أن يقول كلمته من أجل الأرض المستطيلة؛ وطنه شيلي هذا الوطن المجروح، فلا بد من مداواته فرأى غارا في غيتاره – على الأقل – نوعاً من الدواء حيث نلاحظ حد الالتصاق بوطنه وشعبه الذي سخر له كل أغانيه وحياته فكيف كان ذلك؟
أغنية فكتور غارا أغنية حرة:
تخبرنا زوجة فكتور “جوان” أنه حُوصِر مع خمسة آلاف آخرين في حرم الجامعة وكيف التقت بجثته صباحاً تقول: عندما اندفعت الدبابات إلى الحرم الجامعي سبق فكتور الجميع بلا استثناء، بما فيهم عميد الجامعة، إلى فناء ضخم حيث تجري عادة التمارين الرياضية، كان الجنود يضربون الناس بأعقاب البنادق والأحذية وقد أُجبروا الجميع على الاستلقاء أرضاً. الوجه نحو الأسفل واليدان فوق الرأس، كان فكتور يستلقي هنا مع الجميع. بعد ساعة بدأوا يسوقونهم على دفعات، وتحت تهديد السلاح إلى – استاد شيلي – والذي يقع على مسافة قريبة من الجامعة أمام الملعب.
تعرف عليه أحد الضباط: “هذا أنت إذن أيها المغني الحقير” وضرب على رأس فكتور وأضافت زوجته: “وبعد يومين قتلوه بالمدافع الرشاشة، في تلك الأثناء كنت مع أطفالي انتظر أية أنباء عنه وبعد يومين من الانقلاب جاءتني رسالة منه حملها لي شخص نجح في الهرب من الاستاد ولم تصلني أية أخبار لمدة أسبوع بعد ذلك، ثم سمعت إن جثته تم التعرف عليها في المشرحة”.
كان ذلك في ١٥ أيلول عام ١٩٧٣م وحتى في حصاره استمر غارا في كتابة الشعر والغناء فنجده لمجرد استعادته لوعيه الذي فقده بسبب التعذيب، يطلب من أحد أصدقائه ورقة وقلماً ويكتب قصيدة جميلة تكون آخر قصيدة له، وعندما حاولوا عزله عن أصدقائه دس غارا تلك الورقة في يد أحد أصدقائه فتحول فيما بعد إلى أغنية حفظها ورددها كل الذين حوصروا معه، وحملوها إلى العالم أجمع القصيدة، الأغنية تصور لنا حالة الحصار وما يعانونه:
“أغنيتي أغنية حرة
نريد أن تمنح نفسها لكل من يمد يده
فلنستمر في غنائنا معاً
لكل من في الأرض“
ونراه يصر بأن العمل الثوري لا ينبثق إلا من إنسان ثوري، فحتى يكون عمل الفنان ثورياً عليه أن يكون قبل ذلك ثورياً:
“لا يمكن أن توجد لدينا موسيقا ثورية إلا اذا كان لدينا إنسان ثوري” ويقول أيضاً: “علينا أن نجعل شعبنا يفهم واقعه من خلال أغنية الاحتجاج”.
هذا هو الشاعر والمغني الشيلي الكبير الذي حوّل الأغنية إلى وسيلة يدرك عِبرها شعبه وواقعه فينطلق إلى الجميل.
غارا الذي ولد في جنوب شيلي عام ١٩٣٨م لأب فلاح وأم مغنية، ولعل مرافقته لأمه في الأفراح ومواسم الحصاد ولّد لديه منذ صغره حب الموسيقا والعزف على الغيتار، صحيح أنه لم يدرس الموسيقا في أكاديمية، ولم يتعلم النوتة الموسيقية، لكنه درس تراث شعبه وتعلم منه الكثير كان وقوداً لانطلاقته.
في ذكرى ميلادك الثمانين نهديك أيها المغني الجميل وأيها الشاعر الرائع باقة أناشيد كردية.