توالت خيبات الأمل التي مُني بها النظام التركي بشكلٍ مُلفت جداً للانتباه لدرجة أضحت محط اهتمام متابعي الشأن التركي، إذ أجمع الأغلبية الساحقة على أن تركيا تمر بأسوأ حالاتها على الإطلاق وعلى كافة الصعد الداخلية والخارجية السياسية والدبلوماسية الاقتصادية والعسكرية، وتوجت تلك الخيبات خلال الأيام الأخيرة برفض الرئيس الأمريكي جو بايدن لقاء الرئيس التركي اردوغان لتزيد من احباطات مساعي الاخير لترميم ما تهدم بين (الحلفيين).
وما زاد الطين بلة هو اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيث عول عليه على الأقل التغطية على المذلة التي قوبل بها في امريكا، ولكن يبدو واضحا بأن أردوغان لم يستطع في روسيا أيضاً تحقيق شيئاً يذكر رغم الضبابية الثقيلة التي أضفت على اللقاء بين الرئيسين الروسي والتركي ليرجع مرة أخرى بخفي حنين.
وفوق كل هذا وذاك يبقى فشل الدولة التركية في تحقيق أي شيء في حربها الشرسة ضد منظومة المجتمع الكردستاني KCK بمثابة الضربة القاضية التي بددت أوهام الفاشية التركية، رغم زجها للقوى العميلة في باشور كردستان وكذلك المنظمات الإرهابية من المرتزقة السوريين وغيرهم في حربها.
هذا ناهيك عن الصدى الكبير لزيارات وفد الإدارة الذاتية الديمقراطية لكل من روسيا وأمريكا وتأكيد الأخيرة وعلى لسان العديد من المسؤولين على أنها ستدعمها في سوريا، وهم شركاء حقيقيين أنقذوا العالم من الإرهاب حسب وصف نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق ويبقى السؤال المهم الذي يؤرق الكثيرين إلى أين تتجه المنطقة والعالم؟!.
مما لا شك فيه سيشهد القادم من الأيام حسب المتغيرات على الأرض منعطفات وتحولت كبيرة والتي بدأت فعليا ملامح ذلك تتوضح على أكثر من صعيد، وهذا ما يؤكده المثلث النووي المستحدث في المحيطين الهندي والهادئ، بين كل من أمريكا وبريطانيا وأستراليا، وقد يكون للهند أيضاً دوراً مهما في ذاك المثلث، فهذه المتغيرات بدأت فعلياً تدخل التنفيذ بعُيد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وجاءت ردود الأفعال متباينة ومتضاربة جداً من قبل الأصدقاء.
فرنسا التي خسرت صفقة الغواصات النووية مع أستراليا لصالح أمريكا وبريطانيا، والأعداء الصين وروسيا اللتان أعلنتا عنهما أعداء في قمة G7 حسب وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي نفس الأطر تتوضح أكثر نهاية الدور المنوّط لتركيا كمخفر متقدم ورأس حربة في مواجهة المعسكر الاشتراكي إبّان حكم الاتحاد السوفياتي المنهار، وخصوصاً مع توجهات تركيا المعادية لأسيادها ومناطحتهم في مناطق نفوذهم وتشكيل خطر على مصالحهم الاستراتيجية في أكثر من بقعة جغرافية وتحولها إلى قاعدة ينطلق منها الإرهاب إلى العالم أجمع، ويمكن هنا اختصار كل هذه المتغيرات بمقولة ونستون تشرشل: “ليس هناك أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن توجد مصالح دائمة”، ويبدو أن تركيا غاب عنها هذه البديهية المؤلمة أو على الأقل لا تريد أن تصدق ما يجري حولها.
فتركيا ومنذ نشأت نظامها الجمهوري في عام 1929 على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وإلى الآن تعتمد أساساً سياسة اللعب على المتناقضات الدولية، بين المعسكرين اللذين كانا يقودهما أمريكا والاتحاد السوفياتي، ورغم انهيار الأخيرة استمرت تركيا على نفس السياسة وبنفس الشكل اتبعت سياسة العداء للكرد أينما وجدوا واعتبرتهم إرهابيين وخطراً على أمنها القومي! ويبدو أن هذه السياسة أيضاً لم تعد تنطلي على أحد وجاء ذلك مرة أخرى على لسان نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق، حيث قال: “إن تركيا تعتبر جميع الكرد إرهابيون وهذا أمر غير مقبول، فلولا الكرد لما تحقق الانتصار على إرهاب داعش في العراق وسوريا”.
وهكذا نجد أن الجمهورية التي قامت على أنقاض الرجل المريض الإمبراطورية العثمانية أقحمت نفسها خلال قرن من الزمن في وضع لا تحسد عليه، فبدلاً من أن تتجه إلى التعافي من أمراض الإمبراطورية، استمرت على نفس السياسة المريضة، ولذلك فإن الأزمات التي تعصف بها من كل حدب وصوب لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها من خلال تصديرها إلى الخارج، أو إنكار قضايا تاريخية كقضية الشعب الكردستاني ومواجهتها بالحديد والنار، ولا من خلال سياسة الابتزاز المقيتة التي تنتهجها في أكثر من ملف وخصوصاً تجاه أوروبا، ولا من خلال صفقات الذل التي كلها أثبتت فشلها الذريع أكثر من أي وقت مضى، وعلى هذا الأساس فالخيارات أمام تركيا محددة جدا، فإما أن تتجه بجرأة على حل مشاكلها الداخلية وعلى رأسها حل قضية الشعب الكردستاني المشروعة، وأما فإن الرجل المريض سيحتضر لا محالة.