رسائل الحرب والتهديد، باتت واضحة في كلاً من إدلب السورية التي تصاعد العنف درجات ملحوظة فيها، ولقاءات تركية قطرية مع حكومة السراج في ليبيا لإعادة تدوير وتهيئة المرتزقة السوريين هناك بعد امتعاض واقتتال بين المرتزقة وميلشيات السراج في ليبيا، لكن إظهار قطر إلى الواجهة علناً في ليبيا المتاخمة لحدود مصر، رسالة جديدة مزدوجة للمرتزقة والقوى السياسية الفاعلة في المنطقة، ولاسيما بعد تصاعد حدة التوتر في شرق المتوسط وتطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل ونتائجها المتوقعة على المنطقة برمتها.
في خضم تصعيدات حرب تركيا “الكلامية” في شرق المتوسط، والتهديد الأوروبي بفرض عقوبات عليها إذ لم توقف تركيا تنقيبها عن الغاز في البحر المتوسط، ترك أردوغان كل هذه المهاترت خلفه، وتوجه وزير دفاعه برفقة وزير الدفاع القطري إلى ليبيا، والتي تزامنت مع زيارة وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” للبلد الغريق في الصراع أيضاً، ألمانيا التي تعتبر الوسيط الدائم بين تركيا وفرقائها الأوروبيين في غالبية الأزمات المستحدثة في السنوات السابقة.
مساعدة قطرية لضبط تمرد ميلشيات ليبيا بالمال
الظاهر من اللقاء الثلاثي، الذي جمع وزيري الدفاع التركي والقطري ” خالد عطية وخلوصي آكار” مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، أنها محاولة لاستيعاب حالة التمرد بين الميليشيات المسلحة الداعمة لحكومة الوفاق في ليبيا والمرتزقة السوريين، ولبحث مجالات التعاون العسكري والأمني، وبرامج بناء القدرات الأمنية والدفاعية لحكومة الوفاق التي يعتبرها الشعب الليبي حكومة غير شرعية.
وشهدت طرابلس ومصراتة على مدار الأسابيع الماضية صراعاً بين مقاتلي الميليشيات المسلحة في ظل نزاع النفوذ، ومحاولة الحصول على أكثر امتيازات ممكنة، ما مثل عبئاً إضافياً على حكومة الوفاق، من جانب، وامتعاض بين المرتزقة السوريين الذين وصل عددهم إلى 17 ألف مرتزق نقلتهم تركيا إلى لليبيا للقتال، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
هل ستمنح الجنسية الليبية للمرتزقة السوريين؟
ولم يعد تجنيد المرتزقة السوريين للقتال في ليبيا بالإغراء ذاته، في ظل وقائع عن تأخر الرواتب أو عدم صرفها، واحتجاجات في صفوف المرتزقة، ما دفع بعض الفصائل السورية الموالية لتركيا إلى سجن بعض المرتزقة في صفوفها حين رفضوا القتال في ليبيا، وفي حوادث أخرى مثبتة في سوريا قيام قادة الفصائل بمصادرة جزء من مرتبات المرتزقة المنخرطين في القتال بليبيا لصالحهم الشخصي، إضافة إلى عمليات تمويه وخداع للمقاتلين، بإيهامهم أنهم ذاهبون في مهمة لحراسة منشآت قطرية، ثم يتم نقلهم للجبهة الليبية، وهو ما حدث مع الدفعة الأخيرة منهم.
وفي محاولة للسيطرة على الأوضاع، طالب وكيل وزارة الدفاع صلاح الدين النمروش، من وزيري دفاع تركيا وقطر زيادة المخصصات المالية للمقاتلين.
وبناء على هذه الزيارة الثنائية نقل موقع “ليبيا ريفيو”، عن مصادر، لم يسمها، أنّ المباحثات التي جرت بين السراج وآكار والعطية أسفرت عن اتفاق ثلاثي لزيادة الدعم العسكري لحكومة طرابلس. يُعتقد أنه بناءً على طلب النمروش تم الاتفاق على دفع زيادة بنسبة 30٪ في رواتب المرتزقة السوريين المرسلين من تركيا. يأتي ذلك وسط اضطرابات أخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي تتعلق بعدم دفع أنقرة الأموال لهؤلاء المرتزقة.
يأتي ذلك فيما أفادت مصادر لقناة “العربية” أن تركيا وقطر وحكومة الوفاق اتفقوا على منح جوازات سفر ليبية للمرتزقة الذين جلبتهم تركيا وقطر لإسناد حكومة الوفاق في طرابلس، وتقرر أيضا دمج هؤلاء المرتزقة ضمن قوات حكومة الوفاق بإشراف تركي، وكان الرئيس التركي قد وعد المرتزقة السوريين قبل إرسال الدفعات الأولى لليبيا بحصولهم على الجنسية التركية بعد عودتهم.
هؤلاء المرتزقة السوريون والصوماليون والتونسيون، ستسند لهم، وفق مصادر “العربية”، مهام من بينها تأمين وحماية مقرات حكومية تابعة للوفاق أمام سطوة الميليشيات في العاصمة طرابلس.
قطر خرجت من تحت الطاولة
كان لا بدّ أن تشهد ليبيا، بعد هدوء حذر، زخماً كبيراً في الوقائع. استدعت تركيا حليفتها قطر للخروج من الكواليس والإعلان صراحة عن دعم حكومة الوفاق، وإشهار المساعدات العسكرية والمالية، بعدما كانت تُمرّر من أسفل الطاولة، وإيهام العالم ان شيء كبيراً سيحدث في ذاك الجزء من العالم والمطل على المتوسط حيث التواتر التركي الأوروبي، وتزايد المدّ الفرنسي نحو المتوسط لمساندة حليفتها اليونان، واصطفاف غالبية الدول الأوروبية خلفها، فربما ينوى أردوغان إعادة تأجيج الشمال الأفريقي لتخفيف عزلته عبر الإيهام بوجود أوراق قوية بيده في ليبيا.
دور ألمانيا المقبل
وتزامن اللقاء الثلاثي “التركي القطري الليبي” مع هبوط وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس” في ليبيا، يدل على أن الزيارة التي لم يعلن عنها في الإعلام كانت معلومة من قبل الدول الفاعلة، إذ وصف “ماس” الذي التقى السراج الوضع في ليبيا “بالهدوء الحذر”، وربما هي رسالة من ألمانيا التي تسعى على الدوام لمساندة مباشرة وغير مباشرة لتركيا ومحاولة إخراجها من الأزمات، وبالتالي إيهام الأوروبيين بأن حدثاً جلل على الأبواب في ليبيا.
وكانت مصر واليونان قد وقعت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهم، وهو ما سيؤثر سلباً على الاتفاقيات الثنائية بين تركيا وحكومة السراج في ليبيا، لذا تعتبر الزيارة العسكرية المدعومة من قطر التي تعاني من عزلة عربية خليجية رسالة مزدوجة لدول الخليج وعلى راسها الامارات التي أعلنت عن بدء تطبيع علاقاتها مع إسرائيل والذي سيؤثر على سياسات المنطقة برمتها.
معركتي سيرت وإدلب ما الترابط بينهما؟!
وجاءت الزيارة هذه بالتزامن ايضاً مع اتصال هاتفي بين الرئيس الروسي والتركي حول الوضع في إدلب، هذه المدينة التي شهدت خلال أيام، تصعيد القصف بين طرفي الصراع، وانتشر غير مسبوق للقوات التركية فيها ونشر معدات عسكرية ثقيلة، والحدث الأبرز إسقاط ثلاث طائرات استطلاع روسية واستهداف دورية عسكرية روسية تركيا قبل يومين، أحداث ميدانية متصاعدة وتحشيدات ربما تنبئ بقرب معركة في إدلب.
ويربط العديد من المراقبين والسياسيين، بين معركتي سيرت وإدلب، إذ تقف روسيا وتركيا على جبهتين متناقضتين في كلاً من ليبيا وسوريا، ويسعى الرئيس التركي لتمرير اتفاقيات ثنائية روسية تركية في ليبيا على غرار ما شهدته سوريا من صفقات روسية تركيا تسبب بتهجير مئات الألاف من السورين ومقايضة مناطق “مثل ما حدث في عفرين مقابل الغوطة”.
لكن الوضع الليبي مختلف، إذ تتمتع بعض الدول الأوربية بنفوذ أكبر هناك، إضافة للمد العربي المتمثل بمصر ودول الخليج الداعمة لها.
مصر ترفض تحويل مصراته لقاعدة عسكرية تركية
وأورد موقع “الجزيرة”، أن الاجتماع الثلاثي بين رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، ووزيري الدفاع التركي والقطري تطرّق إلى مجالات التعاون العسكري والأمني وبرامج بناء القدرات الأمنية والدفاعية لقوات حكومة الوفاق، وآليات التنسيق بين وزارات الدفاع في الدول الثلاث، وهنا يرى بعض الكتاب والخبراء في الشأن الليبي إلى إنّ زيارة وزيري الدفاع التركي والقطري إلى ليبيا تأتي في إطار التحضيرات للتمترس في الموانئ والمطارات والقواعد العسكرية، وتنطوي على ملامح بأعمال جديدة باتجاه سرت والجفرة، وتعزيز الفكرة الأمريكية بشأن نزع السلاح التي يرفضها المشير حفتر؛ لأنها تمنح مليشيات السراج موطئ قدم في منطقة غاية في الحيوية، وبالتالي تتمكّن أنقرة من تحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالحرب.
وكان مصدر مسؤول مصري قال لوكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، يوم الثلاثاء، ما يتردد عن تحويل مدينة مصراتة الليبية إلى قاعدة عسكرية تركية عقب زيارة وزيري الدفاع التركي والقطري إلى طرابلس يعد تجاوزاً وتهديداً للمنطقة بأكملها، مشيرا إلى أن أي قرار في هذا الصدد يعد خروجا عن المنطق الذي بني عليه اتفاق “الصخيرات” والولاية المنبثقة عنه وعلى قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
معركة إقليمية وشيكة
وشهدت الساحة الليبية منذ أسابيع، هدوء نسبياً، حيث يتمركز الجيش الوطني في طرابلس مستنفراً لأيّ هجوم مباغت من ميليشيات الوفاق، ومن خلفه تأهب مصري ودعم فرنسي، فيما أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تركيا تواصل حشد المقاتلين المحسوبين على بعض الفصائل السورية، بل وتطعمهم ليشملوا صوماليين وتوانسة وتشاديون لدعم حكومة الوفاق.
وأعقب الزيارة التركيبة القطرية، اجتماع جمع بين المشير “خليفة حفتر” ومدير المخابرات الحربية في الجيش المصري اللواء خالد مجاور في مقر القيادة العامة للجيش الليبي يوم الأربعاء، وكانت مصر أفصحت مسبقاً انها لن تقبل بأي تحرك عسكري يمس أمنها القومي.
غير أن سعي أي طرف لكسر الجمود الحالي وبدء ميلشيات الوفاق بالسير نحو سرت سيطلق العنان لمعركة إقليمية، إذ أكدت مصر أنها لن تقف صامته في حال تهديد أمنها القومي، وتصطفي كلاً من روسيا وفرنسا علناً خلف مصر وتدعم الأمارات والسعودية التوجه المصري بشكلٍ غير مباشر، وفي الطرف الأخر، تقف كلاً من تركيا وقطر وبدعم أمريكي لخلق توازن بين تركيا وروسيا.
أزمات متعددة والحل معقد
الوقائع تُشير إلى ترابط وثيق بين معركتي إدلب وسرت، وتأثيراتهما على أزمة الشرق المتوسط، لأن اللاعبين في هذه الرقعة الجغرافية متداخلين، ولكلاً منهم مصالح تتلاقى مع الأخر وتتعارض في جزئيات أخرى، فالصراع التركي المصري الخليجي لا يتمحور حول النفوذ الاقتصادي فقط، بل يتعده في قيادة العالم الإسلامي السني، إذ تحاول تركيا وقطر استثمار الإسلام السياسي للسيطرة على الخط السني المتمثل بالإخوان المسلمين وتطويق الدول العربية عبرها وفرض أجنداتهم في المنطقة الممتدة في الخليج العربي وشمال أفريقيا بعد تعرض مشروعهم في سوريا للتأزم.