روناهي/ جل آغا ـ تُعد النساء العقل المدبر في كل أُسرة؛ فهي من تقوم على احتياجاتها، وتدير ميزانية بيتها بما يتناسب مع وضعه المعيشي؛ تحاول ألا تحرم عائلتها من شيء لذلك لجأت بعض النسوة للعمل داخل منازلهن لتأمين كل مستلزماته؛ فمنهن من تصنع الجبنة ومنهن من تخبز على الصاج وتبيع ومنهن من تصنع دبس البندورة، ومنهن من تقطف الملوخية؛ أعمال بيتية بسيطة تسد حاجتهن وتكفيهن سؤال الآخرين.
الطموح لا يقف عند حد
وحدها الظروف من تجبر الإنسان على اختراع أعمال تساهم في إعانته على ظروف الحياة المعيشية الصعبة حتى لو كان المردود قليلاً؛ لكن الطموح لا يقف عند حد، والأمل بتوسيع العمل حلمٌ ليس من المستحيل تحقيقه.
سعاد الإبراهيم امرأة من ريف جل آغا في الخامسة والثلاثين من عمرها؛ نازحة من مدينة الرقة منذ خمسة أعوام جراء ما قام به مرتزقة داعش من سلب ونهب، وتدمير؛ أمٌ لأربعة أطفال لا معيل لها؛ فزوجها متوفى منذ أكثر من عامين تعمل في الورشات الزراعية، وتنجيد اللحف لتستقر اخيراً على خبز الصاج وبيعه.
تخبز حسب الطلب
“أقوم بالعجن والخبز في الصباح الباكر، حيث تعاقدت مع أحد الدكاكين ليبيع ما صنعته”؛ بهذه الكلمات وصفت سعاد عملها ثم تابعت حديثها: “أقوم بشراء كيس الطحين وخبزه على دفعات حسب الطلب؛ فمنهم من يريد عشرين رغيفاً، ومنهم من يريد خمسين، ومنهم أكثر؛ أبيع الرغيف بـ ٧٥ ليرة سورية”، وأضافت: “ربما أبيع كمية كبيرة في اليوم وربما لا أبيع شيئاً؛ كل ذلك حسب حاجة الزبون”.
أما عن فكرة عملها فقالت: “مللت من العمل خارجاً؛ فأطفالي صغار وأشعر بالخوف عليهم عندما أغيب لفترة طويلة؛ كما وأشارت بأنه لا يوجد أحد تضع صغارها عنده؛ فقررت العمل في البيت؛ لتضيف قائلة: “في البداية فقدت الأمل؛ لكن مع ازدياد معرفة الآخرين بعملي تحسن الوضع وكثر الطلب على خبزي”.
الخبز على الصاج تراث شعبي متجدد
وأشارت سعاد: “خبز الصاج يعتبر شيئاً تراثياً مستساغ الطعم ويعد المكون الرئيس لأكلة “الثريد” الشعبية التي يطبخها سكان المنطقة من الشعب العربي بأفراحهم وأتراحهم، و”الثريد” عبارة عن لحم ومرقة وبامياء تُصب فوق الخبز الذي تم فرشه بالصواني ليتشربها.
علمتني أمي الخبز ذخراً للأيام
هذا وأكدت سعاد بأنها سعيدة بعملها الذي يحفظ ماء وجهها ويؤمن لقمة عيشها حيث قالت: “علمتني أمي الخبز منذ صغري رغم تطور الحياة؛ لكنها قالت ربما تحتاجينه يوماً”. وبالفعل أصبح مصدر رزقي الذي يعينني على الحياة بظل وضع اقتصادي صعب على الجميع”.
قانون قيصر لا يرحم أحداً
أما عن الصعوبات التي تواجهها في عملها فقالت سعاد: “أعاني من عدم توفر الطحين أحياناً وغلاءه مما يؤخر عملي ويؤثر على مردودي”؛ وتابعت سعاد حديثها قائلة: “قانون قيصر لا يرحم وضعاف النفوس يحتكرون المواد، وكلنا سواسية أمامه الغني والفقير”.
خطوات صنعها لخبز لا يقاومه الجائع
أما عن طريقة صنعها للخبز فشرحت الخطوات التي تتبعها؛ حيث تقوم أولاً بنخل الطحين وعجنه بماء بارد نظراً لحرارة الجو كي لا يسيخ ويعذبها في الخبز على النار حسب تعبيرها؛ كما قالت: “لا أحتاج إلا إلى الماء والملح في عملية العجن”.
ثم تترك هذا العجين لمدة لا تتجاوز الساعة ليرتاح بعد أن تقوم بتقطيعه لكرات صغيرة؛ حيث تقوم بتلك الأثناء بتجهيز مكان الخبز تحضر الخشب والصاج وتقوم بغسله.
هذا وتستعمل “المرك” أو ما يسمى بالشوبك وهو عبارة عن قطعة خشبية لا يتجاوز طولها النصف متر؛ ملساء الملمس لترق بها قطع العجين ليساعدها بمدها قبل أن يتوسع أكثر مع حركة يديها السريعة يميناً ويساراً؛ ليستقر أخيراً على ظهر الصاج ويتقمر لتفوح رائحته الزكية التي تداعب البطون الجائعة.
شهادة الجيران بجودة خبز سعاد
هذا وقد أثنى الجيران على خبز سعاد اللذيذ المذاق الذي لا تبخل عليهم به؛ فطالما تحضر أحد الجارات ابريق الشاي وتأتي لتجالسها، وتستلذ بطعمه مع كوب شايٍّ ساخن يغنيهن عن وجبة إفطار دسمة.
هذا وقد سألنا أحد الجارات وتدعى ليلى الخلف ذات الأربعين عاماً التي جاءت لتعد أرغفتها التي اتفقت مع سعاد على شرائها لتقول: “أثق بجودة خبزها وأولادي يحبونه وبخاصة عندما أقوم بطبخ أكلة الثريد”.
وتابعت هذه الطبخة تحتاج هذا النوع من الخبز حصراً.
الجيران يؤمنون لها الطحين تضامناً معها
أما مريم الياسين ذات الخمسة والثلاثين عاماً من أهالي جل آغا فأوضحت: “أثناء الأزمة على الخبز قمنا بطحن كميات من القمح، وأحضرناها لسعاد لتكمل عملها وهذا لا يؤثر على جودة خبزها، بل يجعلها مستمرة بعملها”.
“رغيف فلانة يتحزم به الخيال”
وأكدت الحجة سارة المحمد ذات السبعين عاماً النازحة من مدينة الرقة بأنها تساند سعاد الإبراهيم وتشجعها على هذا العمل؛ فهي تذكرها بأيام صباها حيث ترجع بها الذاكرة لأيام الفرات الغابرة؛ وأكدت الحجة بأن هذا النوع من الخبز تراثٌ فراتيٌّ قديم.
وقالت الحجة واصفة مدح الناس لمن تتفوق على أصحابها بالخبز: “رغيف فلانة يتحزم به الخيال”. وتابعت: “أو يقال: “فلانة رغيفها يسد عين الشمس” تعبيراً عن كبر محيطه واتساعه”. وأضافت مبتسمة: “ورغيف سعاد كذلك”.
أطمح لفتح فرن وتوسيع عملي
وبالعودة لسعاد وطموحها فيما يخص عملها فقالت: “أطمح لتوسيع مشروعي ولا أستبعد فكرة فتح فرن صغير أعمل به أنا وأولادي”.
وتابعت: “ربما يكون المردود قليل في البداية لكن من رضي عاش والأمور ستتحسن لوحدها، وأكدت سعاد بأنها تشجع كل أم لكسر النمطية والخوف وتعمل وهي في قعر دارها لتكون سيدة نفسها”.
بهذه الكلمات المليئة بالأمل وبابتسامةٍ تحارب بها أوجاع الحياة اختتمت سعاد الإبراهيم كلامها لتكون مثالاً للمرأة الطموحة التي لا تعرف أحلامها حدود اليأس التي تنهار أمام رائحة خبز تلك السيدة التي غزا خبزها أنحاء قريتها.