ما تحتاجه سوريا في هذه المرحلة ليس عفواً من أيّ نوعٍ بل حواراً وطنيّاً غير مشروط سياسيّاً، وتُدعى إليه الأطرافُ السوريّة، على أن يكونَ سقفه وحدةُ سوريا أرضاً وشعباً وسيادتها واستقلالها الوطنيّ، وأيّ صيغة توافقيّة يتم التوصل إليها لحلِّ الأزمةِ، ستكونُ أشمل وأعمق في أثرها من أيّ مرسومٍ عفو، لأنّ المقتضى الوطنيّ أشملُ من الإطارِ السياسيّ وحتى القانونيّ، والمسألةُ منوطةٌ بالدرجة الأولى بالآثار المرتبة على العفو وإسقاطاته على مسارِ الأزمةِ، والتي ثبت أنها لم تُفضِ إلى إنهاء معاناة السوريين وحلّ الأزمةِ.
مرسوم العفو العام الأخير
في 16/11/2023 صدر المرسوم التشريعيّ رقم 36 القاضي بمنح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 16 تشرين الثاني الجاري. وشمل فئات عدة من السجناء والمطلوبين؛ بينهم من حمل السلاح في صفوف العدو ضد سوريا، فضلاً عن تخفيف بعض العقوبات بحق مدانين بالإعدام، وأحكام بالسجن المؤبد.
وتنص المادة الأولى من المرسوم، على منح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 16 /11/2023 وفقاً لأحكام هذا المرسوم التشريعي، ويتضمن العفو عن كامل العقوبة المؤبدة أو المؤقتة للمصاب بمرض عضال غير قابل للشفاء، فضلاً عن العفو عن كامل العقوبة المؤبدة أو المؤقتة للمحكوم عليه بحكم مبرم الذي بلغ السبعين من عمره”. وجرائم الفرار الداخلي والفرار الخارجي؛ أي في حال سلم الفارون أنفسهم خلال ثلاثة أشهر بالنسبة للفرار الداخلي، وستة أشهر بالنسبة للفرار الخارجي”.
كما تضمن المرسوم تخفيف عقوبة الإعدام الى عقوبة السجن المؤبد، وتخفيف عقوبة السجن المؤبد إلى عقوبة السجن لمدة 20 عاماً، بالإضافة إلى العفو عن جريمة الخطف إذا بادر الخاطف إلى تحرير المخطوف بشكلٍ آمن ودون أي مقابل”، إلا أنه لن “يشمل المتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة”.
واستثنى المرسوم حالات لا تشملها أحكام التخفيف فلا تطبق على الجنايات التي تسببت بضرر شخصي إلا إذا أسقط الفريق المتضرر حقه الشخصي”، فيما تستثنى من العفو “جريمة حمل السلاح في صفوف العدو ضد سوريا، وكذلك تهريب الأسلحة والاتجار بها”.
كما تستثنى من العفو “الجرائم المتعلقة بقانون ضابطة البناء، وجريمة إضرام النار قصداً بالحراج، والجرائم المنصوص عنها في قانون حماية المستهلك، والجرائم التي أدت إلى موت إنسان”، بحسب البيان، الذي أكد أن هذا العفو “لن يؤثر على دعوى الحق الشخص”، ذلك لأن هذه الدعاوى “تبقى من اختصاص المحكمة الواضعة يدها على دعوى الحق العام”.
ولا يشمل العفو يشمل المتوارين عن الأنظار والفارين عن وجه العدالة إلا إذا سلموا أنفسهم خلال ثلاثة أشهر بالنسبة للفرار الداخلي، وستة أشهر بالنسبة للفرار الخارجيّ”. في حين “يستثنى من شمول العفو عدد من الجرائم المنصوص عليها في قانوني العقوبات والعقوبات العسكريّة، والجرائم المنصوص عليها في عدد من المراسيم التشريعية والقوانين الأخرى”.
وقالت وزارة العدل في الحكومة السوريّة إنّه تنفيذاً لأحكام مرسوم العفو العام “توجهت النيابات العامة في كافة العدليات بالمحافظات إلى دور التوقيف لمباشرة إطلاق سراح المشمولين بأحكام هذا المرسوم وتطبيق كافة بنوده”.
وكان آخر عفو قد صدر في نهاية عام 2022 بالمرسوم التشريعيّ رقم 24، القاضي بمنح عفو عام عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 21/12/2022.
الحلّ الوطنيّ هو العفو الشامل
تكرر إصدار مراسيمَ تضمنت منحَ عفوٍ عام عن مرتكبي جرائم الفرار الداخليّ والخارجيّ وكان أبرزها المرسوم رقم 18 الصادر عام 2018، القاضي بمنح عفو عام عن كامل العقوبة لمرتكبي جرائم الفرار الداخلي والخارجي المنصوص عليها في قانون العقوبات العسكرية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 61 لعام 1950 وتعديلاته والمرتكبة قبل تاريخ 9/10/2018. دون أن يشمل المتوارين عن الأنظار والفارين من وجه العدالة. وعلق حينها وزير الخارجية الروسيّة “سيرغي لافروف” بقوله: إنّ مرسوم العفو خطوة باتجاه المصالحة الوطنية وخلق الظروف الملائمة لعودة المهجرين بفعل “الإرهاب” إلى سوريا، وفق تعبيره.
ولكن خلافاً لحديث لافروف بعد أكثر من خمس سنوات لم تنطلق المصالحة الوطنيّة، ما يؤكد أنّ مراسيم العفو تنطوي على اجتزاء الأزمة وحصرها في أبعاد قضائيّة، والحقيقة أنّ الأحكام القضائيّة هي نتيجة وليست أصل الأزمة. كما أنّ حكومة دمشق هي طرفٌ في الأزمة، ونتيجة ظروف الأزمة وانقطاع التواصل بين أجزاء الجغرافيا الوطنيّة لم تعد مرجعيّة مطلقة لكلّ السوريين
بالمجملِ فإنّ أيّ عفو يعدُّ خطوةً إيجابيّة، ولكن المسألة الجوهريّة في تقييمه تتعلق بظرفيته والإطار الذي صدر فيه، وما تحتاجه سوريا بعد أكثر من 12 سنة من الأزمة السياسيّة والصراع الدمويّ وتعدد وجوه التدخل العسكريّ هو حوارٌ وطنيّ شاملٍ انطلاقاً من ثوابت وحدة سوريا أرضاً وشعباً وسيادتها استقلاليّة قرارها الوطنيّ، عندئذٍ ستقط بشكلٍ تلقائيّاً الكثير من الاتهامات التي تم تجريم سوريين على أساسها، ويتم الإفراج عنهم.
تناولت صحيفة الشرق الأوسط مرسوم العفو، وأشارت إلى انتقاد سوريين مقيمين في الخارج. ولفتت إلى تزامن صدور المرسوم مع طلب محكمة العدل الدولية بضرورة أن تتحرك سوريا “فوراً” ضد ممارسات التعذيب والتعامل مع السجناء بوحشية، وألزمتها بضمان عدم إتلاف أي أدلة على التعذيب.
ونقلت الصحيفة عن خبير قانونيّ أنّ أهم نقطة وردت في المرسوم أنّه استثنى المتهمين بقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012 والذي صدر بعد بداية الأزمة السوريّة في آذار 2011 وهي التهمة التي وجهت لمعظم المعتقلين إن لم يكن جميعهم على خلفيّة معارضة حكومة دمشق كيلا يطالهم أيّ مرسوم عفو.
خطواتٌ في سياق موازٍ
في سياقٍ موازٍ لمراسيم العفو صدر في 23/9/2023، المرسوم التشريعي رقم 32 الصادر القاضي بإنهاء العمل بالمرسوم التشريعيّ رقم /109/ تاريخ 17/8/1968 وتعديلاته المتعلق بإحداث محاكم الميدان العسكريّة. وبحسب المرسوم، تُحال جميع القضايا المحالة إلى محاكم الميدان العسـكريّة بحالتها الحاضرة إلى القضاء العسـكريّ لإجراء الملاحقة فيها وفق أحكام قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسـكريّة الصادر بالمرسوم التشريعيّ رقم 61 لعام 1950 وتعديلاته.
وفي 16/8/2023 صدر أمر إداريّ انتهى بموجبه الاستدعاء والاحتفاظ للضباط وطلاب الضباط الاحتياطيين المدعوين الملتحقين وصف الضباط والأفراد الاحتياطيين (المحتفظ بهم والمدعوين الملتحقين) اعتباراً من تاريخ 1/10/2023 لكلّ من بلغت خدمته الاحتياطيّة الفعليّة سنة فأكثر حتى تاريخ 30/9/2023م ضمنا. وكذلك صف الضباط والأفراد الاحتياطيين (المحتفظ بهم والمدعوين الملتحقين) من مواليد عام 1984 لكل من بلغت خدمته الاحتياطية الفعلية سنتان فأكثر حتى تاريخ 30/9/2023 ضمناً، والتسريح لاحقاً لمن يتم السنتين خدمة احتياطية فعلية لهذه المواليد.
وكان أول قرار يخص تسريح عسكريين وصف ضباط قد صدر في 2018، وشمل القرار حينها أقدم دورة وهي “الدورة- 102” التي التحقت في الخدمة العسكرية عام 2010. وكانت أقدم دورة والأطول خدمة في تاريخ الجيش السوريّ لأنّ مدة الاحتفاظ بها بلغت نحو 9 سنوات. وفيما يحدد قانون خدمة العلم مدة الخدمة الإلزاميّة في سوريا إلا أنّه لا يحدد مدة الخدمة الاحتياطيّة أو سنوات الاحتفاظ.
إجراءات قضائيّة خلفيتها سياسيّة
وتزامن صدور العفو مع مطالبة محكمة العدل الدولية من النظام السوري بوضع حدٍ للتعذيب والمعاملة القاسية والمهينة، وقالت المحكمة إن سوريا يجب أن “تتخذ كل التدابير التي في وسعها لمنع أعمال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو القصاص، القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.
والخميس 16/11/2023 طالبت محكمة العدل الدوليّة سوريا بوضع حد للتعذيب والمعاملة القاسية والمهينة، في أول قضية أمام العدالة الدولية بشأن انتهاكات النظام خلال الحرب الأهليّة التي بدأت في عام 2011. وقالت المحكمة: إنَّ سوريا يجب أن “تتخذ كل التدابير التي في وسعها لمنع أعمال التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو القصاص، القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.
وأضافت المحكمة أن سوريا، حيث قُتل عشرات الآلاف خلال الحرب الأهلية وفق محققين، يجب أن “تتخذ إجراءات فعالة لمنع إتلاف الأدلة وضمان الحفاظ على جميع الأدلة” المتعلقة بأعمال التعذيب وغيرها من ضروب “المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.
وعقدت محكمة العدل الدوليّة في لاهاي أولى جلساتها في 10/10/2023 للاستماع إلى شهادات معتقلين سوريين وصفوا فيها عمليات اغتصاب جماعي وتشويه وطريقة عقاب “موحّدة” تنطوي على وضع الأشخاص في إطار سيارة وضربهم بشكلٍ “مبرح”. وتجاهلت دمشق الجلسة الأولى بعدما كانت قد رفضت القضية ووصفت الاتهامات بأنّها “تضليل وأكاذيب”. وقالت إنّها “تفتقر إلى أدنى درجة من المصداقيّة”.
وطلبت كلٌ من هولندا وكندا من المحكمة اتخاذ “تدابير موقتة” لوقف جميع أشكال التعذيب والاعتقال التعسّفي في سوريا، وفتح السجون أمام مفتّشين من الخارج، وتبادل المعلومات مع العائلات بشأن مصير أقاربهم.
وفقاً للشكوى المقدّمة من البلدين، فإن التعذيب في سوريا “منتشر ومتجذر.. ويستمر اليوم”. ويتحمل الضحايا “آلاما جسديّة وعقليّة لا يمكن تصوّرها، ويعانون جراء أعمال التعذيب، بما في ذلك المعاملة المقيتة في الاعتقال.. والعنف الجنسيّ والعنف القائم على النوع الاجتماعيّ”.
وأضافت الدولتان نقلا عن تقرير لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة أن “عشرات الآلاف ماتوا، أو يعتقد أنهم قضوا نتيجة التعذيب”.
وقال كبير ممثلي هولندا رينيه لوفيبر للمحكمة حينها “نعتقد بصدق أنّ حياة السوريين وعَيشهم معرّضان للخطر ويتطلّبان اهتمام المحكمة الفوري”.
وأطلق الهولنديون أول محاولة في هذا الإطار في أيلول 2020 لتحميل سوريا مسؤولية الانتهاكات المفترضة لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، التي وقّعت عليها دمشق. وانضمّت كندا إلى القضية في آذار التالي.
ولم تتمكّن محكمة العدل الدولية التي تتخذ من لاهاي مقرّاً من التعامل مع سوريا، لأنّها لم تصادق على نظام روما الأساسيّ، أي المعاهدة التأسيسيّة للمحكمة.
الولاية القضائية الدوليّة
أدانت بعض الدول أفراداً سوريين أو لاحقتهم قضائيّاً، باسم الولاية القضائية الدوليّة، ووجهت لهم تهم ارتكاب جرائم حرب في سوريا، وآخرها إصدارها القضاء الفرنسي إصدار أربع مذكرات توقيف بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانيّة وجرائم حرب في هجمات بغاز السارين استهدفت في 21 آب 2013 الغوطة الشرقية ومعضمية الشام قرب دمشق، ما أسفر عن مقتل أكثر من ألف شخص، وفق ما أعلنت واشنطن وناشطون.
ويحقق قضاة تحقيق من وحدة الجرائم ضد الإنسانية التابعة لمحكمة في باريس منذ نيسان 2021 في الهجمات التي ارتكبت عام 2013.
وجاء الإجراء القضائي بناء على شكوى جنائية قدّمها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير والأرشيف السوري ومبادرة عدالة المجتمع المفتوح ومنظمة المدافعين عن الحقوق المدنية. وتتعلّق التحقيقات، التي أُجريت في إطار “الاختصاص الدولي” للقضاء الفرنسيّ، كذلك بهجوم وقع ليل 4- 5 آب في عدرا ودوما.
مراقبون ربطوا بين مرسوم العفو الأخير والقرار الذي أصدرته المحكمة الفرنسيّة، إلا أنّ ما حدث هو مجرد تزامن في التاريخ، وتأكيد ذلك أنّ مراسيم عفو أخرى صدرت سابقاً في إطار سياسة دمشق، كما أنّ إجراءات القضاء الأوروبيّ تنطلق من دواعٍ سياسيّة وليست إنسانيّة ولمن ترتقِ الجهودُ الدوليّة إلى المستوى الذي يُنهي الأزمة السوريّة. وبالمقابل هناك استياءٌ في العواصم الغربية لعدم عدم وجود خطّة أوسع لتقديم هذه القضية أمام القضاءِ الدوليّ.
وتأكيداً على أنّ الأزمة السوريّة بات محل الجدل الدوليّ عقد مجلس الأمن جلسة في 22/5/2014 للتصويت على مشروع قرار مقدم من فرنسا، يطلب من المحكمة الجنائية الدوليّة التحقيق في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا. واستخدمت روسيا والصين حق الفيتو ضد مشروع القرار الفرنسيّ.
وفي 21/12/2016 وبالتزامن مع سيطرة حكومة دمشق على كامل مدينة حلب، أيّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة تشكيل فريق خاص “لجمع الأدلة وتعزيزها والحفاظ عليها وتحليلها” وكذلك الإعداد لقضايا بشأن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال الصراع في سوريا. وأقرت الجمعية العامة مشروع قرار صاغته ليختنشتاين لتشكيل الفريق المستقل بتأييد 105 أعضاء واعتراض 15 عضوا وامتناع 52 عن التصويت. وعلى أن يعمل الفريق بالتنسيق مع لجنة الأمم المتحدة للتحقيق المعنية بسوريا.
وقال مندوب سوريا لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري أمام الجمعية العامة قبل التصويت إن إرساء مثل هذه الآلية تدخل سافر في الشؤون الداخليّة لدولة عضو بالأمم المتحدة. وقُوبل القرارُ أيضاً بانتقاد روسيا وإيران.
وفي 23/8/2011 صوّت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومقره جنيف على قرار يطالب بإرسال لجنة تحقيق مستقلة بشكلٍ عاجلٍ إلى سوريا للتحقيق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، واُعتمد القرار الذي اقترحته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول العربيّة الأربع في المجلس (السعودية والأردن وقطر والكويت) بغالبيّة 33 صوتاً مقابل أربعة أصوات ضد، وامتناع تسعة عن التصويت.