روناهي/ منبج – يقول المثل السائر «أكبر منك في يوم، أعلم منك في سنة» وهذا المقام؛ ينطبق على الرجل المعمر محمود علي العبدو، البالغ مائة عام، وكان قد استضافنا في منزل ابنه عبد الله؛ الكائن بمنبج بالقرب من مدرسة موسى بن النصير قرب سوق الهال.
المحتل التركي، يغتصب ذاكرة الحاج محمود في سني الفاقة
فالرجل المولود في قرية أم الصفا؛ التابعة لريف مدينة منبج، تحدث عن عام ولادته قائلاً: «لقد ولدت في عام الفاقة بأواخر عام 1918م، وكان السبب الرئيسي لتسمية الفاقة، هي المجاعة التي ضربت آنذاك بلاد الشام قاطبةً، بما فيها مدينة منبج، شأنها شأن غيرها من المناطق المنكوبة. على إثر ذلك، سجلت تلك الآونة حالة كثيرة من الوفيات بشكلٍ غير مسبوق، إذ قام المحتل التركي؛ باقتياد كل من يستطيع حمل السلاح، وزجهم في جبهات القتال، دون مسوغ. وهي أيضاً الفترة التي شهدت حركة نزوح عشائر عربية من المناطق المجاورة مثل الباب، وتل العران؛ هرباً من الانضمام للحرب العالمية الأولى. وقد سبق ذلك، قبل ثلاثة عقود موجة أخرى من النزوح؛ تمثلت بنزوح أقوام من الشراكسة، والكرد في عام 1876م، مع احتفاظ مدينة منبج؛ بطابعها الريفي المحض، أو لنقل أنها هي من احتضنت كافة القرى؛ للسبب عينه، مع العلم أن التمدن، لحق بالمدينة بسبب ازدهار التجارة».
وتابع بالقول: «أضحت في سنوات قليلة، منبج ممراً للفرنسيين في عبورهم إلى حلب، وبالعكس. واللافت بالأمر أن المدينة ضمت موزاييك سكاني فريد؛ مقارنةً بالنسبة الكبيرة من عشائر التركمان، المنتشرين في مناطق كثيرة من الشمال؛ كما هو الحال في مناطق عون الدادات، وبوزكييج، وكذلك بالنسبة للأرمن، ممن نجا من إبادات المحتل التركي، فتوافدوا إلى مدينة منبج، فاحتضنتهم بقلبها الدافئ».
وأشار الحاج محمود بأن غالبية السكان في بداية القرن العشرين؛ امتهنوا الرعي مع فئة قليلة من السكان، عملت بزراعة الأشجار المثمرة، التي كان الفستق الحلبي على رأسها، فضلاً عن زراعة أشجار اللوز والجوز».
ذكريات البحث الدؤوب عن نهل العلوم والمعارف
تتعدد الذكريات لدى الحاج محمود، وهو يروي ذكريات طفولته، وإقباله على العلم والدروس، ومتابعته التحصيل العلمي، فقال: «حين أزالت سوريا لثام الذل عن وجهها، وخرجت بإكليل النصر منتصرةً، إذ تآمر المستعمر الأجنبي، فوارب وأخفى اتفاقية سايكس بيكو عن تطلعات الشعوب في بحثها عن التحرر. فكانت المؤامرة تحاك لإيقاع مناطقنا في براثن المحتل التركي، وزج المنطقة في بؤرة صراع جديد، عبر احتلال جديد. فقد حفلت منبج وقتها بضآلة المدارس، وإنما هذه المدارس المبنية، اقتصرت على حلقات العلم، فإلى فترة قريبة، كان يقام في المسجد الكبير، ومنها مسجد الشيخ عقيل منبجي؛ حلقات من الذكر الصوفي. كما حرص المحتل التركي؛ على عدم نشر العلم؛ لإبقاء كافة الشعوب تحت نير العبودية؛ بهدف السيطرة عليها بسهولة تامة، ودأب على تأجيج الصراعات، والنزاعات؛ لتمتين انسلاخ الترابط الاجتماعي بين شرائح المجتمع. إلى جانب اتباعهم أساليب الخداع والمكر، من بينها أنهم جاؤوا فاتحين ومخلصين من فتن الحروب؛ ووقائع التاريخ؛ تثبت أنهم أوقدوا لظى نارها أكثر فوق رقاب الشعوب. بقصد تثبيت دعائم ملكهم الأبدي، فلا غرابة إذا كان ثمة لا وجود للمدارس في مناطق سيطرتهم، وبطبيعة الحال إذا تم استثناء تلك القاعدة، فأنها تقام لبعض أسر النبلاء، والآغاوات؛ المحسوبين على البيت العالي، في الآستانة، دون عامة الناس. وهذا مما لا يخفى أثره الاجتماعي المدلهم، مشكلة نقطة سوداء، في تاريخ الدولة العثمانية».
وتابع العبدو قائلاً: «لم أستطع لجم توقي الشديد للعلم، من أن أنفذ إلى جميع حلقات الذكر الأسبوعية؛ المقامة في مسجد الشيخ عقيلي، لأتلقى مبادئ القراءة والكتابة، وتلاوة القرآن، واستحفاظ كثيراً من الشعر. والجدير ذكره بأن الذين يتقنون ذلك في تلك الفترة، لا يتجاوزون أصابع اليدين باعتبار أن سوريا بعد تحررها من الرجل العجوز المريض، وقعت بعد عامين فقط، تحت نير الاحتلال المستعمر الفرنسي. إذ شرع فيما بعد ببناء مبنى السراي الحكومي، والمدرسة الابتدائية، وتشييد منزل قائم مقام أي «مدير المنطقة» بالقرب من السوق الشعبي. كما أقام ماء سبيل في وسط السوق المسقوف في عام 1930م، إلى جانب تعيين عدد من رجال الدين بوظيفة دينية؛ للإفتاء أمثال؛ «عبد القادر اللبني، وناجي الكيالي، ومحمود العلبي، وجمعة أبو زلام».
وعن مظاهر المشقة التي كانت تعتري أهالي منبج في فصل الشتاء، أضاف العبدو: «عانى أهالي منبج في سنين الأمطار الغزيرة من الفيضانات مما ينتج عنه متاعب عدة تتمثل بالزلق، فلم تسلم الشوارع من المستنقعات الكبيرة، وربما في بعض الأحيان كان مصير البعض الغرق. كما أن المياه الجوفية كانت على محك ظفر من الأرض؛ كون المدينة؛ كانت تقوم على طبقات من رواسب حجر الحور؛ الخازن في طياته؛ بالماء، وبكميات ضخمة. فإن التنقل في تلك الأيام كان بواسطة القوارب الشراعية في وسط شوارع المدينة نظراً لسوء حالة الطرقات وعدم تعبيدها مما أدى إلى حالة مزرية للغاية، وذلك بسبب وطأة الأوحال، وأمطار غزيرة سواءً من فيض سماءها وأرضها. كما شهد منتصف القرن السابق دخول الكهرباء للمدينة، وإحداث سينما في العام 1952م، مع ارتقاء الفكر السياسي، ونضجه عن سابق عهده الأول الذي كان قد بدأ مع ظهور التجزئة كعامل أولي للبحث عن نقاط قوة أضعفها المستعمر عبر اتفاقياته القائمة سياسة فرق تسد.
وجه شبه حقيقي بين ديمقراطية التحرر، وديمقراطية شمال وشرق سوريا
وتابع العيدو بأن مطالب أهالي شمال وشرق سوريا، هي نفسها المطالب في التحرر من المحتل الأجنبي، وقال: «إن حركة التحرر التي ناضلت فيها الشعوب لنيل استقلالها عن الاستعمار؛ تشابه إلى حد كبير طموح الشعب السوري الآن في دفاعه المستميت، لحماية أرضنا وخيراتها ومؤسساتها ومكتسبات التحرر، لأننا على العموم أصحاب حق مشروع بما نملكه من هوية سورية عظيمة».
وتابع الحاج محمود في إبراز وجه الشبه بين فترة التحرر، وفترة تحرر الفكر الديمقراطي الحالي التي تعيشها مناطق شمال وشرق سوريا في ظل الإدارات الذاتية والمدنية الديمقراطية بالقول: «حين تمكن السوريون من نيل الاستقلال، انتقلوا إلى ممارسة حياتهم بشكل مفتوح الجوانب للممارسة الأنشطة والفعاليات السياسية الحرة، لأن الرؤية الفكرية كانت في أوجها التعددي الديمقراطي، فظهر العديد من رجال الفكر والتحرر والسياسة وقتئذ، فقدموا للوطن دون ولاءات حزبية، على الرغم من أن الوطن في فترة الخمسينات، شهد عدة محاولات فاشلة لعسكرة الدولة، لأن شعبنا السوري الأبَيّ، تصدى لها بوعي فكري حقيقي، وتسلح بإرادة التحرر من الفرنسيين وإيمان المنتصرين بتغيير الذهنية السلطوية القائمة على تأجيج الحرب، وهذا ما يشبه الوعي الفكري في مناطق شمال وشرق سوريا في دعوتهم للحوار السياسي لحل الأزمات كلها، ونبذ الآلة العسكرية التي جرت الوطن إلى حافة الانهيار».