مصطلح الجزية من المفاهيم التي جاء بها الإسلام وأُسيئ فهمها وشرحها وتطبيقها على مر العصور، فقد طُبقت الجزية بخلاف ما جاء في النص القرآني، وما مارسه النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اعتبر فقهاء المسلمين قديماً أن “الجزية تؤخذ من غير المسلمين من أهل الكتاب من “اليهود والمسيحيين” في مقابل حمايتهم داخل حدود الدولة الإسلامية، لأنهم ممنوعين من المساهمة في الجيش”.
كما يحرص علماء المسلمين على أن الجزية تؤخذ في مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين، وأنها تؤدى بـ “الصغار” أي بالدونية لتشعرهم بأنهم تحت الحكم الإسلامي أو أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وكل دلائلهم على ذلك أحاديث منسوبة إلى النبي تعني ما ذهبوا إليه /من وجهات نظرهم/، وهي جميعها أحاديث “موضوعة” من حيث السند والمتن، قال أبو الحسن الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية”: “فأما الجزية فهي موضوعة على الرؤوس، واسمها مشتق من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صغارًا، وإما جزاءً على أماننا” .
داعش والجزية
أما في العصر الحالي فقد قال الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره الشفهي، هو ما قاله القدماء، قال: “أما معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب فكانت: إما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية مع استبقاء الحياة، ولذلك قال الحق تبارك وتعالى: “حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون” أي: حتى يؤدوا ما فُرِض عليهم دفعة من أموال مقابل حصولهم على الأمان والحماية، وفي هذا صون لدمائهم.
وأخْذُ الجزية دليل على أنهم ظلوا على دينهم وظلوا أحياء، وهاتان نعمتان من نِعم الإسلام، فالجزية ليست فرض قهر، وإنما هي مقابل منفعة أداها الإسلام لهم؛ إبقاءً على حياتهم وإبقاءً على دينهم الذي اختاروه… ولماذا يعطونها عن صَغار؟ لأن الحق عز وجل أراد للإسلام أن يكون جهة العلو، وصاغرون أيضاً تعني أن يؤدوها عن انكسار لا عن علو”. ولقد طبق داعش هذا الأمر على البلاد التي احتلوها، قبل أن ينهزموا أمام أحرار الكرد.
المعنى الحقيقي للجزية
لا يمكن القول إن الجزية تؤخذ بالعنف من دافعها وهو صاغر؟ كلها أمور لابد من مراجعتها جيداً، لكي نعرف أن أي فهم يخالف النص القرآني مردود على قائله، وأي حديث يخالف النص القرآني فإن النبي لم يقله أبداً.
نعود للآية القرآنية الكريمة 29 من سورة التوبة التي تشرح معناها، فالآية تقول “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.
هذه هي آية الجزية، الجزية كما في معاجم اللغة، مشتقة من فعل جزى يجزي، إذا كافأ عما أُسدي إليه، ومعنى الآية هو طلب من المسلمين بأن يُقاتِلوا بعض أهل الكتاب و”ليس كلهم”، وهم الذين فعلوا شيئاً يجزون عليه؛ لأن كل المسيحيين واليهود يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولذلك فإن القتال الذي شرّعه القرآن في تلك الآية، هو قتال أدى إلى وقوع الجزاء عليهم، فالجزية هنا بمعنى الجزاء، وهو سبب لا يمت لإيمان أهل الكتاب بدينهم، وإلا فإن حرية العقيدة و”حكم” لا إكراه في الدين يتم نسفه، وهو ما لا يقول به إنسان على الإطلاق.
ولذا؛ فإن الآية لها سبب نزول، وسبب النزول هو ما قام به يهود بني قريظة عندما دخلوا في التحالف الجزيري مع قريش وباقي القبائل التي هاجمت الدولة الإسلامية، وذلك بعد أن تعهّدوا لحماية المدينة من جهتها الجنوبية، بعد أن حفر المسلمون الخندق شمالاً، ولكنهم غدروا بالتعهد، بل قاموا بالقتال ضد المسلمين، أي أنهم نقضوا اتفاقاً سياسياً ليس له علاقة بحرية التديّن أو حرية الاعتقاد، وكان لابد من محاسبتهم.
وفي العُرف السياسي في أي دولة في العالم؛ فإن نقض الاتفاقيات وتغيير التحالفات أثناء الحروب تؤدي إلى معاقبة الناقضين لتلك المعاهدات، وهذا كان حال بني قريظة، فبعد أن انتهت حرب الأحزاب عاقبهم النبي بسبب خيانتهم ونقضهم للحلف الموقّع بينهما، وتم قتل من غدر، ولم يقتل من استمر على وفائه بحلفه، بل قال النبي عنهم بأنهم حموا أنفسهم بوفائهم، ولم يقتل النبي كل بني قريظة، كما جاء في روايات تقول إنه قتل كل الرجال وسبى كل الأطفال والنساء، لأن الرواية الصحيحة غير المشهورة كما في كتب السنن والصحاح تقول “تُقتل مقاتلتهم…”، أي الذين قاتلوا ونقضوا العهد، وعددهم قليل ربما لا يتجاوز العشرة رجال.
الجزية أيضاً ليست مالاً محدداً يُدفع كل عام للخليفة أو الوالي، وحتى لو كان ذلك المال يُدفع فإنه يُدفع مرة واحدة فقط بمفهوم آية الجزية، وليس كل عام كما ذهبت كتب التراث التي لم تتفهّم معنى الجزية على حقيقتها، ولم يؤثر عن النبي أنه أخذ مالاً كجزية كل عام من المخالفين في العقيدة، ولكن بعد وفاته الشريفة، أُخذ المال على أنه جزية سنوية مقابل الأمان الممنوح لهم، وساروا على ما سار عليه الرومان والفرس من قبل، وهو أخذ مال سنوي أو ضريبة الرؤوس. ولله الأمر من قبل ومن بعد