سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الجامع الكبير بمنبج؛ تحفة معمارية تأبى أن تندثر

إعداد/ آزاد الكردي –

روناهي/ منبج: تحتضن منبج العديد من المعالم التاريخية والأثرية لاسيما المساجد التي ما إن ذكرت بها، فسوف يتبادر للذهن مسجدها الكبير. حيث لعب دوراً تنويرياً في نشر إعادة الحياة بعودة تعاليم الدين الإسلامي، ويتمتع المسجد بطراز معماري فريد يعبر عن عراقة وأصالة الفن الإسلامي على مر العصور.
يعد “الجامع الكبير” في مدينة منبج أحد أهم المساجد في المنطقة الشرقية في مناطق شمال وشرق سوريا نظراً لأهميته التاريخية؛ عدا عن كونه أحد المعالم والتّحف المعمارية البارزة التي تؤرخ للحقبة المشعة التي عاشتها فترة طويلة مدينة منبج.
أصول وجذور
المسجد بحسب ما ذكره وصفي زكريا في كتابه “جولة أثرية” فقال: “وفي منبج جامع قديم من آثار نور الدين الزنكي بني سنة 1156م ( 551هـ) كما ذُكر على حجرة في مئذنته إلا أن البناء القديم قد اندثر، ثم رممه السلطان عبد الحميد الثاني سنة (1886م ـ 1304هـ)، فالمسجد إذن قديم ويرجع إلى عهد نور الدين الزنكي، وإن لم يبق منه أي أثر يدل على ذلك، وهو بشكله الحالي أثر عثماني حميدي، ومازالت هناك منقوشة فوق نجفة الباب القبلي للمصلى القديم نقشت عليها معلومات تاريخية تبين سنة الترميم وهي 1304هـ ، وعليها الختم الحميدي (طغراء السلطان عبد الحميد).
الموقع والمساحة والحقبة التاريخية
أما موقع المسجد من حيث التنظيم الإداري للمدينة، فيقع في المحضر 391 من المنطقة العقارية 249 وتبلغ مساحته الإجمالية 2218م، وقد بني على الطراز العثماني المعروف سنة 1304هـ؛ كما هو مدون على قطعة حجرية، عليها الختم السلطاني الحميدي، وهي موجودة فوق الباب الرئيسي للمُصلى القديم. ما يزال يحتفظ المسجد الكبير بأهم معالمه الأثرية، على الرغم أن هنالك تغيراً ملحوظاً ببعض معالم المسجد. وتمت توسعة المُصلى مرتين اثنتين؛ وذلك بإشراف مفتي منبج السابق الشيخ جمعة أبو زلام، أُولى أعمال التوسعة كانت من الجهة الشرقية، وأما الأخرى فكانت من الجهة الغربية. ويشكل الهيكل القديم للمسجد الآن ثلث مساحة المسجد، وألحقت به توسعة من الغرب والشرق تشكلان الثلث، وتقدر المساحة الداخلية للمصلى الداخلي 800م. هناك علامات واضحة تبين الأثر القديم الذي تتوسطه القبة الكبيرة، وكذلك فالمسجد الحميدي يقوم على أعمدة كبيرة عددها اثنا عشر عموداً، بالإضافة إلى السقف المتميز من حيث جماله والشكل الفني، أما التوسعة الجديدة، فسقفها من الخرسانة وليس فيها أي شكل فني، وتلحق بالمسجد ساحة كبيرة مساحتها 750م بالإضافة إلى مُصلى صغير أُحدث مؤخراً إلى جانب موضأ.
التسمية، وأعمال الترميم
وقد سمي المسجد الكبير “بالحميدي” نسبة إلى السلطان “عبد الحميد الثاني”، وهو أكبر مساجد منبج وله مكانة خاصة في نفوس السكان. ومن المعروف عن سيرة السلطان عبد الحميد الثاني أنه كان مهتماً ببناء المساجد وترميم القديم منها، خاصة مسجد منبج التي عادت إليها الحياة بعدما وفدها قوم من الشركس والتركمان في عام 1877م. وقد بُذل جهد كبير في بناء وترميم العديد من الأسواق التجارية؛ كالسوق المسقوف، والمدارس وسبل المياه. وكانت له أيادٍ بيضاء في كثير من البلدان التي احتلتها الدولة العثمانية لاسيما في ولاية بلاد الشام، وقد بنى وأعاد بناء عدد من المساجد المهمة، وقد برز اهتمامه الخاص بالمسجد الحرام والمسجد النبوي بالأخص. أما أهم آثاره الوقفية في منبج، فهو المسجد الكبير، ومسجد أبي قلقل الكبير، ومن الآثار القديمة التي تعود لزمن وعصر السلطان عبد الحميد “الحمام الكبير” في المدينة الذي أعيد ترميمه أخيراً بالتنسيق مع الجانب التركي.
توسعة المسجد
فالشكل الحالي للمسجد تغير عما كان عليه سابقاً، فبني أولاً على شكل مسجد ومُصلى ومستودع وغرفتين وفسحة سماوية وبئر ماء. وبنيت له قبة كبيرة في وسط المصلى إلى جانب مئذنة تشبه المآذن العثمانية المعروفة في مساجد حلب ومدارسها؛ كالخسروية والعادلية والبهرمية والعثمانية وزكي باشا. ويتضح البناء الحجري القديم للمسجد من خلال جسم المصلى والأعمدة الحجرية الكبيرة قبل توسعته بالإضافة إلى القبة الكبيرة التي تضيء المصلى، والبئر الذي ما تزال آثاره واضحة للعيان. إلا أنه قد بني حائط جديد فصله عن الساحة الخارجية للمسجد، وهو مهجور ولا يصلح للاستفادة منه، وقد حلت التوسعة الجديدة مكان السماوية التي كانت في الجهتين الشرقية والغربية، أما الفسحة الكبيرة التي كانت خارج المصلى، فلم يعد لها أي أثر قديم كائن، وقد توزعت على أطرافها أبنية جديدة، وهي غرفة الإفتاء والمستودع والمُصلى الشتوي والموضأ.
المنبر ومئذنة المسجد وتحديثهما
كان للمسجد منبرٌ خشبي قديم يزين قبلته وكان مزركشاً وجميلاً، وبالقرب منه محراب صغير، فكان الخطيب يصعد درجات المنبر ليجلس على الدرجة الأخيرة، ثم يقوم لخطبة الجمعة، ثم ينزل ليصلي بالناس في المحراب القديم. تتعدد الروايات في فقدان منبر المسجد، فإحدى الروايات تقول أنه اختفى وفقد على أثر وفاة الشيخ جمعة أبو زلام، أما رواية أخرى فتقول إنه لم يعد صالحاً لقيام الخطيب عليه بسبب تلفه، فأزيل من مكانه ونقل إلى الجهة الغربية وأنشئ مكانه محراب جديد معلق، وهو أقرب ما يكون من حيث الشكل العام إلى المنبر الخشبي في المسجد الكبير في “أبو قلقل” إلا أن منبر مسجد منبج الكبير أكبر حجماً ويتناسب مع سعة المسجد. ومما لا شك فيه أن مئذنته القديمة لم يبق لها أثر وأنشئت مكانها مئذنة جديدة بمقطع مثمن، ترتفع فوق المدخل الجنوبي من الجهة الغربية للمسجد. ويتبع للبناء القديم غرف قديمة، خصصت من أجل إعطاء دروس وحلقات العلم الدينية، وقد تهدمت تلك الغرف لكن أثرها ما يزال موجوداً، ولم يبن شيء مكانها، وآخر من جلس في تلك الغرف للتدريس الشيخ سعيد الغانم خطيب الجامع الكبير حتى 1968م؛ أما الشيخ جمعة أبو زلام خطيب الجامع ومفتي المدينة، فقد توفي سنة 1985م.
الأهمية التاريخية للمسجد
فالمسجد الحميدي أعيد ترميمه والاهتمام به من قبل السلطان عبد الحميد الثاني ليكون مكاناً للصلاة ولإعطاء دروس العلم، وقد أدى وظيفته على أكمل وجه عبر التاريخ، فهو مكان لصلاة الجمعة وسائر الصلوات وهو مدرسة لطلاب العلم الذين يلتقون فيه بالعلماء ويأخذون من علومهم، وما يزال المسجد إلى اليوم عامراً بالمصلين وهو من أهم معالم المدينة. وموقع المسجد أكسبه أهمية كبيرة أشبه ما يكون بنقطة الالتقاء وجذب للسكان بين مناطق متفرقة بين الريف والمدينة، فاكتظ بالمحلات التجارية لاسيما وأن السوق الرئيسي القديم وسوق السلالين يقعان بالقرب منه، وبني كذلك بالقرب منه القصر الحكومي. وتأتي أهمية المسجد من كونه أكبر المساجد ومن أقدمها، وتلحق به أوقاف كثيرة، ومن أهمها 76 محلاً تجارياً محيطة بجسم المسجد، وهي من الأرض الموقوفة أيام العثمانيين لصالح المسجد، كما تبرع بعد ذلك أحد الشراكسة الذين أقاموا في منبج، بمساحة أرض، أقيم عليها 25 محلاً تجارياً، ثم تبرع بعد ذلك أهل الخير بوقف محلين من المحلات التجارية في السوق الرئيسي. وتجدر الإشارة إلى أن الأوقاف التي ألحقت في المسجد لا تزال تؤدي وظيفتها في الإفتاء، ويصرف ريعها لصالح المسجد إضافة إلى القائمين عليه في إقامة شعائر الخطبة والصلاة والخدمة وغيرها من شؤون الأوقاف المعروفة.
دخلت مدينة منبج ضمن منظومة حركة التنظيمات الإصلاحية الإدارية التي قام بها السلطان عبد الحميد والتي تمثلت بدستور عام 1876م بعدما كانت قبل ذلك خربة ممتلئة بالوحوش. وربما كان السبب في ذلك رغبة منه في إكمال النقص الذي شابَ الدور الثاني من حقبة والده، وشملت هذه الإصلاحات إحداث قضاء منبج الذي يضاف إلى الأقضية الأخرى التي ألحقت بولاية حلب، ومنها؛ جرابلس والباب وإعزاز وغيرها. وبناءً على ما تقدم، أسس لها جهاز إداري وهو قائم مقام ومعاونه إلى جانب القضاء الذي يقوم به الإفتاء. وبني لذلك منزل القائم مقام الذي يتولى شؤون المدينة المستحدثة ودار الإفتاء ومكانها في المسجد الكبير والقصر العدلي جانب مبنى البريد. وبرزت الحاجة إلى الإفتاء بعد موافقة الدولة العثمانية على هجرة أقوام من الشركس لمنبج إلى جانب أقوام من الكرد والبدو الرحَّل. وكانت وظيفة المفتي إصدار الفتاوى الشرعية، وقد تتعدى ذلك إلى القضايا الاجتماعية لفض المنازعات والخلافات بين الناس إضافة إلى إعطاء بعض دروس العلم في المسجد. وقد تعاقب الكثير من المفتين على مدينة منبج وريفها منذ تأسيسها والذي ينبغي أن تتوافر فيهم شروط التقوى والصلاح، نذكر منهم؛ الشيخ عبد القادر اللبني، والشيخ ناجي الكيالي، والشيخ محمود العلبي، والشيخ جمعة أبو زلام.
المراجع: صفحة وثائقيات منبج
الإدارة العثمانية في ولاية سورية ـ عبد العزيز محمد عوض