هناك تباين في نظرتين لحالة واحدة، النظرة الأولى ترى أنها إرهاب، والنظرة الثانية تراها نضالاً وكفاحاً، وكان مرجع هذا التباين إلى معطيات الزمان والمكان، بحيث يتبدد ذلك التباين بتبدد إحداهما أو كليهما معاً، فتتحد النظرتان في نظرة واحدة، وهذا ما حدث عندما طالب الرئيس الجزائري من نظيره الفرنسي، إعادة رفات أبطال حرب التحرير الجزائرية (الذين كانت فرنسا تعتبرهم في الماضي إرهابيين وقَتَلة) من متحف الإنسان في فرنسا، ليعاد دفنهم وتكريمهم في أرض الجزائر، التي ضحوا بحياتهم من أجلها، وقبِل الرئيس الفرنسي ذلك معتبراً أنهم مناضلون ضحوا بحياتهم من أجل الانعتاق من نير الاستعمار، رغم أنهم كانوا في مفهوم أسلافه إرهابيين وقتلة، لقد ضحى الشعب الجزائري من أجل حريته بالكثير من دماء أبنائه حتى سمي الجزائر بحق “بلد المليون شهيد”. وما كان من الممكن للجزائر أن تنال استقلالها إلا بدم هؤلاء (وللحرية الحمراء باب … بكل يد مضرجة يدق)، والجزائر تحتفل في أول تشرين الثاني من كل عام بذكرى اندلاع ثورتها، ففي مثل هذا اليوم من عام 1954 اندلعت ثورة التحرير الجزائرية، حيث انطلقت أولى رصاصات الثورة بمنطقة الأوراس، وسرعان ما امتد لهيب الثورة إلى بقية المدن الجزائرية، لقد بدأت الثورة بعدد محدود من الثوار، مسلحين ببنادق تقليدية وبنادق صيد وقنابل بدائية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وتقدر الشهادات والدراسات التاريخية بأن الثوار، في فجر الثورة، لم يكن في حوزتهم إلا ما يقارب 400 قطعة سلاح، لكن هذه البداية المتواضعة للثورة أدت إلى حدوث أزمات سياسية خطيرة في فرنسا، بل شكلت العد التنازلي لسقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة لتحل محلها الجمهورية الخامسة، والتي فشلت هي الأخرى في القضاء على الثورة، لاتباعها نفس العنف مع الجزائريين، مما أدى إلى تشويه المكانة الدولية لفرنسا، وأسفر ذلك عن إصدار الأمم المتحدة قراراً يمنح شعب الجزائر حق تنظيم استفتاء من أجل نيل استقلاله، وبعد سلسلة من المفاوضات بين الحكومة الفرنسية التي تولى رئاستها الجنرال شارل ديغول، وكان الطرف الجزائري في تلك المفاوضات بعض القادة المناضلين المعتقلين في السجون الفرنسية، ولم يكن الطريق إلى تلك المفاوضات سهلاً، وإنما كان مليئاً بالمؤامرات، ومنها اختطاف قادة الثورة في عملية قرصنة جوية، تذكرنا بما حدث فيما بعد بقرصنة اختطاف المناضل عبد الله أوجلان، ففي طريقهم بالطائرة إلى تونس أقدم طيران الجيش الفرنسي في 20 تشرين الأول 1956 على اختطاف الطائرة التي تقل قادة الثورة (أحمد بن بللا ومحمد بوضياف وحسين آية أحمد ومحمد خيضر)، وبتلك القرصنة أفشل جنرالات الجيش الفرنسي المفاوضات التي كانت قد بدأت بوساطة تونسية ومغربية، حيث سجن هؤلاء في السجن الفرنسي لاسانتي في جزيرة إكس، لكن عملية القرصنة تلك وتداعياتها كانت المسمار الأخير في نعش الجمهورية الفرنسية الرابعة، وإجبار حكومة الجمهورية الفرنسية الخامسة بعد مماحكات على إطلاق سراح هؤلاء القادة المناضلين والبدء في المفاوضات معهم، وأذكر أنني اشتركت مع الجماهير المصرية في الاستقبال الشعبي الحافل لهؤلاء، وأتذكر جيداً لحظة وصولهم إلى قصر الطاهرة في سيارة مكشوفة وهم يحيون الجماهير المحتشدة قرب أبواب القصر، وانتهت المفاوضات بالتوقيع على اتفاقية إفيان في آذار 1962، ومن بعدها أجري استفتاء على استقلال الجزائر، وبقية الحكاية معروفة. لكن ما نقصده بهذه الكلمات، هو مدى التباين في النظرتين حيال ثورة الجزائر وقادتها بين الماضي والحاضر، ثم تبدلت تلك النظرة بفعل تغير الزمان إزاء حدث تاريخي واحد، فجماجم شهداء الثورة التي كانت في متحف الإنسان في باريس، بصفتهم مجرمين، أعيدت إلى الجزائر في احتفال مهيب يليق بأصحابها.
أهدي هذه الكلمات إلى لمناضل السجين في سجن إيمرالي بتركيا منذ عقدين من الزمان، فسيأتي يوم يجبر فيه السجّان على تغيير نظرته إليه، وأهديها أيضاً إلى المناضلين في جبل قنديل، فكلي ثقة بأن نضالهم لن يذهب سدى، وإلى أهالي المدن والقرى السورية التي احتلتها تركيا، فإن يوم انعتاقهم من الاحتلال قد اقترب.