إنّ ما تَبَقَّى من أدواتٍ أيديولوجيّةٍ ويُراد التسويق لها على أنّها خارج الدولة والسلطة وتُعقَدُ عليها الآمال، هي الدينَوِيّةُ المفتَقِدَةُ لوظيفتها الأخلاقيّة، والجنسويّة التي تَنشُرُ السلطةَ أيضاً في جميعِ مساماتِ المجتمع، والقومويّةُ الغارقةُ في الشوفينيّة بما يُضاهي القَبَليّةَ ألفَ مرّة، والعلمويّةُ التي لَم يَبقَ لها هدفٌ سوى إظهار سُبُلِ الربح الأعظميّ لاحتكاراتِ رأسِ المال والسلطة. بينما ما تَبَقّى من الفنّ مجرد صناعة الثقافة التي تُشَيِّئُ سُمُوَّ المشاعرِ وعواطفَ الجمال. يَبدو فيما يَبدو أنّ إحصائيّةَ هذه المدنيّةِ هي الوضعُ المسمّى بنهاية التاريخ. مهما صُيِّرَ المجتمعُ بلا ردودِ فعلٍ بعد تعمِيَتِه والتشويشِ عليه في عالَمٍ افتراضيٍّ من خلال احتكاراتِ الإعلام، ومهما أُخضِعَ للرقابةِ المُشَدَّدة والرَصد المُحكَم حتّى أدقِّ مساماته عبر أجهزة السلطة؛ فإنّ نظامَ المدنيّةِ والحداثةِ العالميَّ المُعَمَّرَ خمسةَ آلافِ عامٍ عموماً وأربعةَ قرونٍ على وجهِ الخصوص، وصلَ قاعَ الأزمةِ الذهنيّة والبنيويّة. والرأسماليّةُ الماليّةُ الصائرةُ قوّةً كونيّةً مهيمنة أسطعُ برهانٍ على ذلك. أما العالَم الذي تُدارُ عجَلاتُه بِيَدِ الرأسماليّةِ المالية، فهو عالَمُ المآزقِ المُتَضَوِّرُ في الأزمات.
لا أرمي إلى تطويرِ نظريّاتِ المأزق والأزمة. وقد كنتُ عَرَّفتُ الرأسماليّة بأنها ليست مجرّد نظامٍ يتّسم بالأزمات الدوريّة وحسب، بل هي طَورُ الأزمةِ البنيويّة الممنهجة لنظامِ المدنيّة المتأزّم دوريّاً وعلى المدى الطويل معاً. وإنْ كان لِطَورِ الأزمة مستويات داخليّة أشدّ حِدّةً يشتمل عليها، فالمرحلةُ المُعاشةُ حاليّاً هي تلك الفترة. لدى تبياني لذلك، فمن الضروريّ القول أني لستُ من أولئك الاشتراكيين الذين كانوا في وقتٍ ما، وربّما لا يزالون يَعقِدون آمالَهم على الثورةِ النابعة من الأزمات. فالأزماتُ لا تُنتِجُ الثوراتِ وحسب، بل والثوراتِ المضادةَ أيضاً. علماً أني أُقَيِّمُ هكذا نمطاً من نظريّات الأزمة – الثورة – الثورة المضادة بأنها جهودٌ بَلاغيّةٌ ودعائيّة أكثر من أنْ تَكُون واقعيّة. بالتالي، فأنا لا أتشبّثُ بالمقولة التي مفادها أنّ الأجواءَ تَغدو منفتحةً بسرعة أمام العصرانيّة الديمقراطيّة. بل إني أَقبَلُ مساراتِ المأزقِ والأزمة على أنهما مجرّد ظاهرة. بينما لا أراها عوامل مؤثّرة بمستوى القدرةِ على توليدِ الأحداث التاريخيّة. كان النهجُ التقدّميّ الكونيّ المطلق في وقتٍ حريصاً على استنباطِ أشكالِ المجتمعِ المتوجّهة قُدُماً من السيّئ نحو الأفضل، حسب نظريّات الأزمة. لكنّ الواقعَ الملموسَ بذاته لم يؤيّد مصداقيّةَ هذه النظريّةِ كثيراً. هذا ما معناه ضرورة البحثِ في ميدانٍ آخر عن العوامل ذات القيمة المُحَدِّدة بحالتها التاريخيّة والراهنة على السواء. وخَيارُ العصرانيّة الديمقراطيّة كان بالأغلب حصيلةَ مساعي البحث تلك. ولدى عرضي إياه، لا أَبرَحُ مُرغَماً على التنويه مِراراً إلى قناعتي بأنّ معرفةَ الخاصّيات التي ينفرد بها هذا الخَيارُ ستَجعَلُ الجهودَ المعنيّةَ بالممارسةِ العمليّةِ مُثمِرَة. كما أني أُكِنُّ التقدير والالتزامَ الأقصى بالإرثِ الديمقراطيّ الإيجابيّ للتاريخ. بل وأَعتَبِرُ ذلك نقداً ذاتيّاً أيضاً بالنسبة لي. لا أقتصر على القول بأني استَنبَطّتُ الدروسَ اللازمة، بل وأؤمن بأنّ عَمَلَ اللحظةِ استناداً إلى التاريخ يتميّز بِقيمةٍ أسلوبيّةٍ لا استغناء عنها. بينما لا أُكِنُّ نفسَ التقدير أو الالتزام تجاه كلِّ فكرةٍ أو ممارسةٍ عاجزة عن استيعابِ ضرورةِ أنْ يَكُونَ التاريخُ اللحظةَ الحاليّة، وأنْ تَكُونَ اللحظةُ هي التاريخ، أيّاً كانت قيمتها ونتائجها. ذلك أني لا أؤمن بهكذا أفكارٍ وممارسات. وإدراكاً مني بأنّ المستقبل يَمُرُّ من اللحظة، فإني لا أؤمن بوجودِ مستقبلٍ لِمَن هو عاجزٌ عن حلِّ أو تحليلِ لحظته وراهنه.