No Result
View All Result
المشاهدات 0
“إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وأبو سلمى“
شوقي بزيع
لا نحتاج إلى عناء كبير لكي نكتشف الدور الطليعي، الذي لعبه الشعر الفلسطيني في الحفاظ على الهوية الوطنية والتاريخية للشعب المكافح، الذي لم يكف محتلوه عن محاولاتهم الدؤوبة لمحو هويته وتزوير تاريخه، وطمس ذاكرته الجمعية. ورغم أن السردية المضادة لسردية التزوير الإسرائيلي لم ينهض بها الشعراء وحدهم، بل آزرهم في ذلك عدد غير قليل من المفكرين والروائيين، والرسامين والمسرحيين والفنانين، إلا أن الملاحظ هنا، أن فلسطين قد احتلت جزءاً غير يسير من جغرافيا الشعر العربي المعاصر، مقدمةً لهذا الأخير بعض أفضل رموزها المعاصرة.
وإذا كان المقام لا يتسع للوقوف على المصادر المتنوعة لشعرية فلسطين، فينبغي القول: إن تلك الشعرية لم تنبت في الفراغ المحض، بل هي الوريثة الشرعية لجيل الشعراء السابقين، إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى، الذين وُلدوا في السنوات الأولى من القرن العشرين، وتفتحت مواهبهم في ظل النذر الأولى للتراجيديا الفلسطينية، التي بدأت مع وعد بلفور، واستمرت فصولها مع ثورة عام 1936، وبلغت ذروتها مع النكبة عام 1948. ومع أن نتاج هؤلاء الشعراء لم يقتصر على موضوع المقاومة وحده، إلا أن الظروف المصيرية التي كانت تمر بها فلسطين في فترة تكونهم، لم تترك لهم ترف الانصراف إلى شؤونهم الخاصة، فاندفعوا إلى مواجهة الواقع المأزوم على جبهات ثلاث، تتمثل أولاها بسلطة الانتداب البريطاني، التي بدأت تمهد الطريق لإنشاء دولة إسرائيل تنفيذاً لوعد بلفور، وثانيها بتنامي هجرة اليهود الاستيطانية إلى فلسطين، وثالثها بساسة البلاد وزعمائها وسماسرتها، ممن عاثوا في أرجائها فساداً، وصولاً إلى بيع جزء منها لأعدائها القادمين من أوسع أماكن الأرض.
إن قراءة عميقة ومتبصرة في تجربة إبراهيم طوقان المولود في نابلس عام 1905، لا بد وأن تقودنا إلى الاستنتاج بأن طوقان المستند إلى موهبته المتقدة، وإلى اطلاعه الواسع على التراثين العربي والعالمي، وهو المتخرج من جامعة بيروت الأمريكية، كان بمستطاعه أن يذهب بعيداً في مغامرة التجديد الشعري، لو لم تحمله العواصف المحيقة ببلاده على تكريس الجزء الأكبر من شعره لبلسمة جراح شعبه، والتصدي لأعداء الداخل والخارج المتواطئين على قهره ومصادرة حاضره ومستقبله. وقد عدّ الناقد الفلسطيني إحسان عباس، أن إفراط طوقان في الشغف بالحياة، قد بدا جلياً في جمعه بين ذرىً ثلاث متعاقبة، هي «ذروة الحب، وذروة الشهوة، وذروة المشكلة الوطنية». كما تمثل نزوع إبراهيم التجديدي من خلال أسلوبه التلقائي القريب من النثر، ولغة المشافهة، كما في روح الدعابة والسخرية السوداء، التي تشيع في شعره، إضافة إلى تجزئة البنية الخليلية الصارمة للقصيدة، وتحويلها قِطعاً متناغمة شبيهة بالموشحات، أو إلى أغانٍ وأناشيد، ليس نشيد «موطني» الشهير سوى واحد منها.
ومع أن طوقان كان بحكم إقامته في بيروت وتدريسه في جامعتها الأمريكية، على الإشاحة بوجهه عن مجريات الأحداث في بلاده، فهو لم يترك مناسبة إلا واتخذها منصة للتذكير بالمؤامرات، التي تدبر لفلسطين في السر والعلن، مندداً بمقاولي الأراضي، الذين تعاملوا مع الوطن بوصفه عقاراً للبيع لا خزاناً للذاكرة الجمعية، ومجسداً للهوية والانتماء، كما في قوله:
“باعوا البلاد إلى أعدائهم طمعاً بالمال، لكنهم أوطانهم باعوا/ قد يُعذَرون لو أن الجوع أرغمهم والله ما عطشوا يوماً ولا جاعوا/ تلك البلاد إذا قلت اسمها وطنٌ لا يفهمون، ودون الفهم أطماعُ/ أعداؤنا منذ أن كانوا صيارفةٌ ونحن منذ هبطنا الأرض زُرّاعُ“.
وإذ يشتد الصراع على الأرض وتتباين السرديتان الفلسطينية والإسرائيلية، تنشر إحدى الصحف العبرية عام 1929 قصيدة للشاعر الصهيوني رئوبين يشيد فيها بشجاعة شعبه وصبره على المكاره، متهماً العرب بالجبن والتخاذل والخنوع. كما يفْرط الشاعر في ذم العرب الفلسطينيين واعتبارهم أهل خيانة وغدر وقتلةً للأطفال والشيوخ والنساء، تماماً كما يحدث اليوم كما لو أن التاريخ يكرر نفسه، ينبري طوقان للرد على رئوبين، مذكّراً إياه بالجرائم الصهيونية المتمادية بحق شعب فلسطين الأعزل، وبحق الأطفال على نحو خاص.
لكن طوقان سرعان ما ينتبه إلى أن مسؤولية القادة والزعماء الفلسطينيين المتنافسين على الوجاهات والمكاسب الأنانية، لا تقلّ عن مسؤولية الأطراف الخارجية الطامعة ببلاده، فيخاطب المتنفذين الفاسدين بسخرية مشبعة بالمرارة:
“أنتم (المخلصون) للوطنية أنتم الحاملون عبء القضية/ أنتم العاملون من غير قولٍ بارك الله في الزنود القوية/ وبيانٌ منكم يعادل جيشاً بمعدّات زحفه الحربية/ ما جحدنا أفضالكم غير أنّا لم تزل في نفوسنا أمنيّة:/ في يدينا بقيةٌ من بلادٍ فاستريحوا كي لا تطير البقية“
كان لا بد لهذه الروح الوطنية الحالمة بالحرية والاستقلال، أن تترك أثرها العميق في نفوس المواهب الشعرية الفتية، التي لم تكف عن إنجابها أرض فلسطين. وكان عبد الرحيم محمود المولود في طولكرم عام 1913 في طليعة تلك المواهب، وأحد أبرز الذين تتلمذوا على طوقان، وتأثروا بنزعته التحررية، ونقمته على الواقع، كما تأثر بلغته وأسلوبه. لكنه الشاعر الذي عيّن إثر تخرجه في قسم الشرطة، لم يلبث أن استقال من هذا العمل المعاكس تماماً لأفكاره وتطلعاته، واختار بعد الاستقالة أن ينخرط في الثورة الكبرى ضد التحالف البريطاني الصهيوني، التي أجّجها عز الدين القسام أواخر العشرينات، ثم بلغت ذروتها عام 1936، أي بعد استشهاده بعام واحد. وإذ كُتب للشاعر المقاتل أن يخرج حياً من المواجهات الدامية، التي خاضها ببسالة ضد أعداء شعبه، بدت النصوص، التي نظمها في تلك الفترة بمثابة ترجمة تلقائية لمشاعره الوطنية والاحتدامات التي تدور في نفسه، بخاصة قصيدة «الشهيد» التي تحولت إلى واحدة من أيقونات الشعر الفلسطيني المقاوم، والتي يقول فيها:
“سأحمل روحي على راحتيّ وأُلقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياةٌ تسرُّ الصديق وإما مماتٌ يغيظ العدى/ ونفس الشريف لها غايتان ورودُ المنايا ونيل المنى“
على أن جذوة الثورة في داخل محمود، لم تعرف سبيلها إلى الانطفاء، ولم تحدها حدود فلسطين. إذ ما لبث الشاعر أن انتقل إلى العراق ليشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الانتداب البريطاني عام 1941، والتي آلت بدورها إلى الفشل، تاركة في روحه المكلومة المزيد من الندوب. لكن اللافت في تجربة عبد الرحيم، هو ابتعادها أحياناً عما هو مألوف في شعر المقاومة النمطي، كما تُظهر وقفته التأملية، لدى فراره من العراق إلى فلسطين، أمام حجر وحيد في الصحراء الشاسعة، فكتب مخاطباً الحجر:
“فيمَ انفرادُكَ لا أنيسَ تراه في القفر المخيفِ/ في ربْقة الوهج الحَرورِ وغلّ عاصفةٍ عصوفِ/ وصبرتَ للهوج اللوافحِ في الضحى صبرَ الأنوفِ” ومع أن نفس عبد الرحيم محمود قد عرفت القليل من الطمأنينة بعد عودته إلى الوطن، ومن ثم زواجه والتحاقه مدرساً بكلية النجاح الوطنية، إلا أنه لم يجد راحته الحقيقية إلا بعد أن قضى شهيداً في «معركة الشجرة» التي دارت بين العرب والصهاينة عام 1948، وهو لا يزال في أوج شبابه وعطائه.
لكن الحديث عن إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود لا يستقيم بأي حال دون الحديث عن عبد الكريم الكرمي، أو زيتونة فلسطين الذي غلب لقبه الآخر «أبو سلمى» على اسمه الأصلي. فالشاعر المولود عام 1909 لأسرة معروفة شُغف أبناؤها باللغة والأدب العربيين، والذي عمل في مجالي التدريس والمحاماة، سخّر قلمه وفكره ونضالاته للدفاع عن قضية شعبه العادلة. وحين أقالته سلطة الانتداب من وظيفته في التعليم عقاباً له على قصيدة هاجم فيها ممارسات تلك السلطة، طلب إليه صديقه إبراهيم طوقان العمل إلى جانبه في إذاعة فلسطين، ليتوجه بعد النكبة إلى دمشق، ويوزع سنوات عمره اللاحقة بين تعقّب الأصوات المشحونة بالأسى والغضب التي تأتيه من جهة الشعر، وبين الانخراط في النضالات الوطنية والسياسية التي تبقي قضية بلاده حية في وجدان العالم. ولم تكن الجوائز الكثيرة والرفيعة التي نالها أبو سلمى قبيل رحيله عام 1980 وبعده بسنوات، سوى تتويج رمزي لعطاءات الشاعر الذي ردد قصائده ومقطوعاته الألوف من أبناء شعبه وأمته، وبينها قصيدته الشهيرة «لهب القصيد» التي يقول فيها:
“أنشرْ على لهب القصيدِ شكوى العبيد إلى العبيدِ/ شكوىً يرددها الزمانُ غداً إلى الأبد الأبيدِ/ قوموا انظروا الأهلين بين الوعد ضاعوا والوعيدِ/ ما بين ملقىً في السجون وبين منفيٍّ شريدِ/ قوموا انظروا الوطن الذبيح من الوريد إلى الوريدِ”
«يا أبا سلمى، أنتم الجذع الذي نبتت عليه أغانينا» هكذا، قال محمود درويش مخاطباً صاحب «من فلسطين ريشتي»، وذلك في أثناء الحفل التكريمي الذي أقيم له في بيروت بمناسبة حصوله على جائزة اللوتس عام 1978. وقد استخدم درويش صيغة الجمع؛ لأنه كان يعني بذلك المثلث المؤسس لشعرية فلسطين المقاومة، والذي يضم إلى عبد الكريم الكرمي كلاً من إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود. وهو بهذا القول لم يجاف الحقيقة بشيء؛ لأن الفروع التي نبتت على ذلك الجذع، وبينها درويش نفسه، هي أكثر من أن تُحصى وأن تنحصر ثمارها في جيل واحد.
No Result
View All Result