عبدالرحمن محمد –
لا ترتقي الشعوب والأمم ما لم تتقدم في الفكر والإبداع والثقافة، وما من ثقافة تتقدم وتزدهر ما لم تكن متفتحة على الثقافات التي حولها، وتتقدم بتواصلها معها وتسمو وتؤثر وتتأثر، وتحافظ على خصوصيتها من غير تفرد وتسمح بالتلاقح الثقافي من غير تمرد، وهكذا تتوسع آفاق المعرفة وتزدان الثقافة بأشكال وسمات متنوعة وهي تضم الكل الثقافي في آن ومن ثم تتفاعل وتنفرد في خصوصياتها الجزئية.
في شمال شرق سوريا التي شهدت تغييرات جمة لم يكن الواقع الثقافي بمنأى عمَا حصل من تغيرات على الأرض، بل لعل الواقع الثقافي كان الأكثر تغيراً اذ كانت الظروف الموضوعية أكثر ما تغير، وكذلك الحال في الكم والكيف، وبرزت أشكال وأنماط جديدة في الحراك الثقافي، كانت حتى أمد قريب من مفردات الممنوع والمرفوض وتارة كانت تصب في خانة ما يُعاقب علية القانون الذي ما كان من سنّه ووضعه بأحسن ممكن كان يحاول تطبيقه، فقد كانت سياسة اللغة الوحيدة والثقافة الواحدة والفن والفلكلور والتراث وحتى النزرة واحدة، فطغت تلك الثقافة الشوفينية الإقصائية حتى أوشكت أن تفتك بغيرها من الثقافات، أما في السنوات السبع الأخيرة وإبان هذه الثورة فقد تغيرت المفاهيم والاتجاهات وظهرت الكثير من الاتجاهات والثقافات لتتجلى حقيقة الثقافة المشتركة المتعددة المتكاملة في كل بيت وشارع ومدينة ومع تلاحم وتكامل تلك الثقافات كانت الخصوصية الفكرية والثقافية والإثنية لكل الشعوب المتعايشة في وئام وسلام.
العديد من الفعاليات الثقافية والفنية لاقت صدى اجتماعي وأقبال جماهيري وباتت من ثقافة المنطقة ومن طقوسها السنوية، كمعرض الكتاب ومهرجان الأدب ومهرجان الموسيقا ومهرجان المسرح بالإضافة إلى فعاليات خاصة بالمرأة كفعاليات مهرجان أدب وفن المرأة وفعاليات ونشاطات رابطة المرأة المثقفة والهلال الذهبي إضافة لمهرجان فن وأدب الطفل معرض الكتاب الثاني والمعارض المتنقلة ونشاطات كومين السينما والمسرح وحركة الثقافة والفن والمؤسسات الثقافية الأخرى كاتحاد مثقفي إقليم الجزيرة واتحاد الكتاب الكرد-سوريا واتحاد مثقفي روج آفا كردستان وهيئة الثقافة.
معرض الكتاب الثاني والمعارض المتنقلة
كان القرار بإقامة معرض سنوي للكتاب في روج آفا قراراً فيه الكثير من التحدي والبعض من المغامرة نظراً للظروف التي تشهدها سوريا عامة وشمال سوريا بشكل خاص، وفي النسخة الأولى من المعرض في عام 2017م. كانت المفاجأة للجميع من حيث ما لاقاه المعرض من إقبال جماهيري واسع والزخم الثقافي الذي تركه والانطباع الحسن عن علو شأن الثقافة في المنطقة والاهتمام الكبير بها، وكذلك ما شهده المعرض في نسخته عام 2018 والذي جاء باسم الشهيد والمثقف حسين شاويش “هركول”، فقد شهد المعرض إقبالاً واسعاً ومتابعة يومية من قبل جماهير إقليم الجزيرة وباقي مناطق شمال سوريا وضم المعرض قرابة 1500 عنوان وما يربو على العشرين ألف كتاب، ووزعت وبيعت ما يقارب ال” 12ألف” كتاب، وتم فيه توقيع خمس كتب من الإصدارات الجديدة، بالإضافة إلى المحاضرات والندوات وحوارات الطاولة المستديرة، والتي تناولت قضايا في الثقافة والفن والأدب والإعلام وأدب المرأة، كما كانت عفرين التي أُهدي المعرض إلى مقاومتها حاضرة في المعارض والصور المرافقة للمعرض بالإضافة إلى الأفلام الوثائقية، وكانت الحوارات والنقاشات التي رافقت المعرض بناءة وهامة خرجت بتوصيات هامة كان من أبرزها إقامة معارض كتب متنقلة في مدن وبلدات ومناطق شمال سوريا وأقيمت أربع معارض متنقلة للكتاب في كل من ” ديريك، عامودا، والحسكة وسري كانيه” لاقت الكثير من الإقبال.
المهرجانات الثقافية… أعراس للفن والأدب
كانت المهرجانات ولا تزال تشكل اللبنة الأساسية في التواصل الجماهيري، وتبادل المعرفة والثقافة والفنون، ومنذ انطلاقة ثورة روج آفا كانت المهرجانات سمة أساسية ووسيلة للتواصل بين شعوب ومكونات المنطقة بأسرها، وباتت العديد من المهرجانات طقوساً سنوية تقام كل عام، وتتنوع في خصوصيتها بين أدبية وفنية، وفي توجهها وتنوع رسالتها، فكانت مهرجانات “مهرجان الأدب، مهرجان أدب وفن الطفل، مهرجان أدب وفن المرأة، مهرجان المسرح، مهرجان الأغنية، مهرجان عروض السينما العالمية وغيرها من المهرجانات التي لاقت الصدى الطيب والإقبال والحضور الجماهيري الذي دل على النهم الثقافي والمعرفي، وفي مجمل تلك الفعاليات كانت الفرصة الأكيدة والممتازة للتعريف بالثقافة المشتركة بين شعوب شمال شرق سوريا والتعريف بخصوصيات كل منطقة من جهة كما كانت فرصة لنقل الفن والادب والثقافة السورية إلى العالم للتعريف بها أكثر وبطرق ومفاهيم جديدة بعيدة عن الإقصاء والتهميش لأحد.
المكتبات العامة… صروح ثقافية
المكتبات ذاكرة الشعوب ورسول أجيالها عبر ما تكتنزه الكتب من فن وثقافة وأدب وتاريخ للأجداد تنقله للأحفاد، وكذلك ما تحمله من ثقافات الشعوب الأخرى وتطلعنا عليها لذا كانت المكتبات في أولويات القائمين على المؤسسات الثقافية، إن كانت متمثلة بهيئة الثقافة والفن أو حركة الثقافة والفن الديمقراطي أو المؤسسات الثقافية الأخرى كاتحاد مثقفي الجزيرة، وفروع هذه المؤسسات في جميع مدن ومناطق شمال وشرق سوريا، وشهد عام 2018 افتتاح العديد من المكتبات العامة ومن أبرزها “مكتبة محمد منلا غزيل في منبج، مكتبة سردم في مخيم سدم بالشهباء، ومكتبة آمارا في قامشلو”، إضافة إلى مكتبات هيئة الثقافة في المراكز الثقافية المنتشرة في أغلب المدن والبلدات، والمكتبات الخاصة والعامة الأخرى في ديريك وغيرها والتي تحوي الآلاف من العناوين وعشرات الألوف من الكتب القيمة في موضوعات شتى.
المرأة منبع الثقافة الأصيلة والمشتركة
المرأة بكل حضورها وبفنها وأدبها وخصوصيتها كمنبع لكل ما هو أصيل كانت حاضرة في مجمل المشهد الثقافي، وشاركت الرجل في كل الفعاليات الثقافية والفنية بل وتميزت في الكثير من الفعاليات وبخاصة الفنية منها، وبرزت بفنها وتفردها وطبيعتها التي ترمز للحب والحنان والتضحية إلى جانب قوتها كثائرة ومقاومة ومدافعة عن وجودها وكينونتها من جهة وعن الوطن بكل ما فيه من جهة أخرى، وكانت لها أنشطتها الخاصة والمتميزة من خلال لجان المرأة في كل المؤسسات، واستطاعت أن توصل صوتها وفنها إلى العالم أجمع وأن تشحذ الهمم للمزيد من العطاء ومن خلال بعض المؤسسات الخاصة بأدب وفن وثقافة المرأة كرابطة المرأة المثقفة وحركة الهلال الذهبي وغيرها من المؤسسات ذات الخصوصية بالإضافة لعشرات الفرق الفنية.
معارض الفن التشكيلي والضوئي… توثيق وفن
الفن التشكيلي بمعارضه المتعددة ولوحاته التي تخلد التاريخ وترسم الحدث بريشة الفنان وكذلك معارض الصور الضوئية كانت دائمة الحضور في شمال شرق سوريا، ورغم ان الفن التشكيلي برأي الكثيرين من الفنانين والمثقفين في المنطقة فن جديد وليس له الكثير من الانتشار والممارسين، إلا أن انتشاره وزيادة محبيه ومتابعيه والعاملين في مجاله أدى إلى تناوله من قبل شريحة هامة من أبناء شمال سوريا، وأقيمت عشرات المعارض للفن التشكيلي والرسم في مناطق عدة من شمال سوريا، كذلك معارض الصور الضوئية المتجولة والتي كان أبرزها معرض الصور الذي أقامه “مركز شوبدارن روجيه للثقافة” وأقيم في أغلب مدن وشمال سوريا، كذلك العديد من المعارض التي قامت بها مؤسسات ثقافية ومنها معرض الصور الجوال الذي أقامه اتحاد المثقفين في إقليم الجزيرة والذي كان مخصصاً لانتهاكات تركيا بحق شعب عفرين، وجرائمها بحق البشر والأرض والحجر، كذلك العشرات من المعارض التشكيلية الفردية والمشتركة. التي عملت على زيادة المعرفة والاطلاع على الفن التشكيلي ودعم الفنانين ومساندتهم ليوصلوا فنهم ورسالتهم للعالم.
الندوات الحوارية والمحاضرات الثقافية والتلاقح الثقافي المعرفي
في مواكبة للثورة الشاملة التي تشهدها مناطق شمال وشرق سوريا، وبجميع شعوبها ومكوناتها بإثنياتها وانتماءاتها وعقائدها المتنوعة كان الحراك الثقافي جزءً لا يتجزأ من هذه الثورة، بل أن الثورة الثقافية كما ثورة المرأة كانت أحد الجوانب الهامة والأساسية لهذا الحراك الثقافي الجماهيري وأصبحت الثقافة المجتمعية هي المطلب والمسعى وفي كل مناسبة وحراك وكانت الندوات والفعاليات والمحاضرات تقام في كل المؤسسات والمراكز الثقافية ليتم فيها طرح الكثير من القضايا الفكرية والأدبية الثقافية والأيديولوجية، وباتت المحاضرات والندوات الحوارية ثقافة وطقوساً يومية تتعارف خلالها شرائح ومكونات المجتمع على جوانب من الثقافة والفكر والأدب وتتناقش فيها وتتشارك في صنع الحاضر ورسم آفاق المستقبل.
نهضة في الطباعة والنشر
إلى جانب المعارض والمكتبات كانت هناك نهضة في الطباعة والنشر التي تمثلت بطباعة العشرات من الكتب وباللغتين العربية والكردية، في عناوين مختلفة ومواضيع متعددة ومتنوعة قامت بها هيئة الثقافة والفن واتحاد مثقفي مقاطعة الجزيرة، وعبر مطبعتي دار شلير في قامشلو ومطبعة الشهيد هركول في ديريك وكانت هناك عناوين جديدة وكتب قيّمة فكرية وسياسية وأدبية وتاريخية ومن بعض الكتب الصادرة عام 2018 باللغة العربية على سبيل المثال لا الحصر “مغامرة صحفي مصري في دولة داعش لسيد عبدالفتاح، أدب الاطفال في الثقافة الكردية لعبدالمجيد قاسم، السجل الأسود لحسين شاويش، خطايا زهر الزيتون لسلام حسين، مذكرات غريق لعبدالرحمن محمد، مرايا في الفكر والثقافة والسياسة لدهام حسن، وطن الشمس لعبدالله قرمان، منك تغار النساء لأحمد اليوسف، من الحكم والأمثال الشعبية لخليل كالو، للشفق وقت آخر لحنان رشكو” إضافة لعشرات العناوين الأخرى التي أغنت المكتبتين العربية والكردية.
لا أحد يمكنه أن يفصل بين ما تشهده المنطقة ككل وبين الحراك الثقافي الذي بات في ثورة حقيقية واضحة المعالم، وباتت الثقافة المجتمعية المشتركة في تكامل يغني المشهد الثقافي ويحافظ على الخصوصية الدقيقة للشعوب والمكونات، وبين ما قدمته الفرق المتنوعة من موسيقية وغنائية وتراثية، وما قدمته المؤسسات الثقافية من نتاج فكر يعبر عشرات الكتب التي صدرت في مواضيع شتى، والمناهج التعليمية باللغات الام، والفعاليات الأدبية والفنية، تكاد الثقافة المجتمعية تسود كافة الشرائح ولا يكون أحد بمنأى عن فعالياتها والمشاركة فيها ويجد كل شخص من أبناء هذه الأرض نصيبة في المشاركة بصنع غد أجمل وأغنى جمالاً وثقافةً وسلاماً.