سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التقارب التركي ـ السوري.. بين الديناميكيات الحركية والدوافع والمعوقات

آزاد كردي_

 
يرتبط مسار التطبيع بين دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق بمجموعة من الديناميكيات، لإيجاد أرضية مشتركة تمكنهم من التفاوض، والتوجه من مسارات أمنية إلى مسارات دبلوماسية بعد سنوات من التوتر والاحتقان، في ظل سعيهما إلى تحقيق أهداف مختلفة رغم التباين الكبير في دوافعهما، إلا أن ذلك يواجه بالعديد من المعوقات.
الديناميكيات الحركية لمسار التقارب (حراك أمني – دبلوماسي) 
تنطلق الديناميكية الحركية لحكومة دمشق من فشل الحلول العسكرية كوسيلة فعالة لحل إفرازات العسكرة التي أنتجت مع بداية الثورة، وبضغط من روسيا لدفع سوريا لتحقيق مقاربات أمنية مع دولة الاحتلال الداعمة للمجموعات المتطرفة والمرتزقة، والفصائل المسلحة من خلال منهجية التسويات الأمنية أو إبرام اتفاقات، مثل تلك التي حدثت في مناطق ما تسمى بخفض التصعيد في الجنوب وحول دمشق. ولا شك أن هذه الديناميكيات تعكس استراتيجية حكومة دمشق تحولاً حركياً تكتيكياً نحو الحلول الدبلوماسية والتفاوضية كبديل عن الصراع المسلح ولا مانع لديها من الاجتماع مع المسؤولين الأمنيين الأتراك طالما الأمر يحقق الهدف شريطة تقديم دولة الاحتلال التركي ضمانات للانسحاب من سوريا كشرط أولي للتفاوض.
أما دولة الاحتلال التركي، فقد أجرت استدارة لعدد من الملفات السياسية والعسكرية بالمنطقة لا سيما إعادة العلاقات مع مصر والمملكة العربية السعودية انطلاقاً من شعار “لا عداء في السياسة دائم وللأبد”، ورغبتها اعتماد ذات المنهجية تجاه حكومة دمشق بالأخص بعد أن تهاون حلف شمال الأطلسي بدعم العمليات الاحتلالية التركية شمال غرب سوريا؛ نتيجة التوترات المتصاعدة بين الاحتلال وروسيا حول تطبيق اتفاقية سوتشي في عام 2018 ثم وصلت العلاقات إلى حافة المواجهة المباشرة بين الاحتلال وروسيا، في حين قررت دولة الاحتلال تبني سياسة ”إعادة التوازن“ في علاقاتها مع موسكو التي مهدت للقاء غير مباشر بين دولة الاحتلال وحكومة دمشق بوساطة روسية بعد قمة موسكو في  العاشر من آذار 2020، إذ أكدت دولة الاحتلال احترامها لسيادة الأراضي السورية والاتفاقيات الثنائية مع حكومة دمشق، بما في ذلك اتفاقية أضنة لعام 1998، والتي تعدُّ أحد الأسس القانونية التي يستند إليها الاحتلال بتنفيذ عملياته الاحتلالية داخل سوريا. هذه التحركات دفعت الأطراف إلى النظر بإمكانية اختبار مسار التطبيع مما أفضى لهذه الديناميكية وتسارع وتيرة العلاقات بين الاحتلال وحكومة دمشق بلقاءات استخباراتية جرت بين عامي 2019 ـ 2024، بررت وقتها بأنها جزء من التعاون لمحاربة ”التنظيمات الإرهابية“.
من وجهة نظر أخرى، بدأ تطوير المسار السياسي لملف سوريا مع انعقاد قمة طهران في 19 تموز 2022 التي كشفت عن وجود ملامح أولية للتعاون بين دولة الاحتلال التركي وروسيا، إضافة لعودة الحضور الإيراني ضد السياسات الأمريكية في سوريا. الوعود الأمنية والاقتصادية من إيران وروسيا شجعت دولة الاحتلال على التفكير في تعزيز مسار التطبيع مع حكومة دمشق الذي بدأ بشكل علني بعد ثلاثة أشهر بلقاء بين وزير خارجية دولة الاحتلال التركي بنظيره السوري على هامش قمة عدم الانحياز في بلغراد. ثم تصاعد الحراك ليصبح جزءاً من “خارطة طريق”، تجسدت بلقاء جمع وزير الدفاع التركي بنظيره السوري في موسكو نهاية عام 2022. وفي نهاية تشرين الأول 2023، بدأت إشارات لإمكانية رفع مستوى الحوار السياسي للرئاسي في إطار ”عملية سلام“ في المنطقة، من ثم الدفع نحو خطوات سياسية أخرى، تمثلت بعقد جولة في العاشر من أيار 2023، على مستوى وزراء خارجية دولة الاحتلال التركي وإيران، وروسيا، وحكومة دمشق.
أما عام 2024 فقد شهد أكثر حراكاً ونهجاً إزاء تنشيط التقارب وانتقاله من حالته الأمنية للحالة الدبلوماسية صدرت بدعوات للاجتماع سواء في بغداد، أو موسكو، أو المنامة، أو أي مكان يحدد بين اتفاق البلدين. ومن الملاحظ أن هذا المسار شهد تسارعاً للتطبيع بعد إعلان الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا نيتها تنظيم انتخابات بلدية الأمر الذي قابلته دولة الاحتلال التركي بالتهديد بهجمات احتلالية ما لم تتراجع بالتزامن مع طلب الرئيس التركي لقاء رئيس حكومة دمشق في حين أعرب الأخير عن ترحيبه بالمبادرة، شريطة أن تكون وفق قواعد ومرجعيات محددة بين الجانبين.
دوافع ومتطلبات التقارب 
يرتبط التقارب بين دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق بثنائية معقدة من الدوافع، تشمل الاعتبارات الاستراتيجية والمصالح الأمنية لكل من الطرفين. فمن جهة، يسعى الاحتلال إلى تأمين حدوده الجنوبية والقضاء على الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، مما يدفعها للتقارب مع حكومة دمشق كوسيلة لتحقيق هذا الهدف ومن جهة أخرى، تسعى حكومة دمشق لاستعادة السيطرة على الأراضي الخارجة عن سلطتها، وهو ما يجعلها مستعدة للتفاوض في سبيل تحقيق ذلك، ما يجعل من هذه الديناميكية أداة لتحقيق مصالح متبادلة، رغم التباين الكبير في الأهداف النهائية للطرفين. إن الإلحاح على التطبيع يشير إلى إدراك تركيا لـ ”عبثية بقاء الوضع القائم“ في سوريا لا سيما أن السنوات الأخيرة قد شهدت تراجعاً كبيراً في دعم ما تسمى بالمعارضة السورية وتقلصاً ملحوظاً في فرصها بمعركتها ضد حكومة دمشق، الأمر الذي يفضى لإعادة تقييم الموقف التركي على أسس المصالح الأمنية، والتحديات الداخلية، والتفاعلات الإقليمية.
فعلى المستوى الداخلي، ملف اللاجئين السوريين أصبح قضية حيوية في ظل توظيفه من الأحزاب السياسية المعارضة التركية لأغراض انتخابية أو لانتقاد الحزب الحاكم ما يجعله من أكثر القضايا إلحاحاً في ظل البحث عن حلول اعتباطية سواء بما يسميه الاحتلال التركي بمنطقة آمنة أو بحرب عسكرية على أن تكون المناطق المحتلة مستضيفة لتهيئة الأرضية المناسبة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وهو أمر يلبي الضغوط الداخلية على الحكومة التركية. ناهيك عن أن عودة العلاقات مع سوريا ستنعكس إيجابياً على الاقتصاد التركي إذ تشكل سوريا معبراً تجارياً إلى العالم العربي، في حين تسببت القطيعة في فقدان الاحتلال لهذه البوابة الاقتصادية المهمة، ومن هنا تأتي أهمية تطبيع العلاقات لتحقيق مصالح اقتصادية مباشرة.
أما على المستوى الخارجي، فإن ما يدفع الاحتلال للتقارب مع حكومة دمشق تغير توجهات الإدارة الأمريكية التي تضغط باتجاه طي صفحة الثورات العربية وتهدئة النزاعات الإقليمية والمناطقية ضمن سياق لا غالب ولا مغلوب لأي طرف، ما أدى إلى هدوء نسبي في المنطقة، لكنه استنزف الأطراف المشاركة في النزاعات، وأضافا ضغطاً على دولة الاحتلال التركي لإعادة النظر بسياساتها في الملف السوري، وبالأخص إرسال رسائل إلى الولايات المتحدة إزاء دعمها المستمر للإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا الأمر الذي تعدُّه تهديداً لأمنها القومي، ويتعارض مع المصالح التركية.
بالنظر إلى المتطلبات الموضوعية إزاء التقارب فهو مرهون بمدى تلبية مصالح كلا الطرفين. من الجانب التركي، فهذا التقارب يستند إلى مصالح سياسية لتحقيق أهداف استراتيجية قد تترجم إلى خطوات فعلية في حال توفرت الشروط الملائمة. ومع ذلك، يبقى الاحتلال متحفظاً وحذراً حيال هذا الملف الحساس، خشية التبعات الأمنية والسياسية لأي تقارب غير مدروس، وسعيه للحصول على ضمانات محددة قبل اتخاذ أي خطوة قبل الخوض باتفاقات تضمن إدارة المنطقة للفصائل المعارضة، ويقابله فتح المعابر الحدودية لتسهيل حركة التبادل التجاري بعيداً عن السيطرة العسكرية المباشرة، تجنباً لتكرار سيناريو الجنوب السوري، حيث انسحبت القوات الأردنية لتجد نفسها تواجه تهديدات أمنية خطيرة تتعلق بالإرهاب وتجارة المخدرات. ومن ناحية أخرى، تظل حكومة دمشق طرفاً محورياً في ظل سعيها لاستعادة السيطرة الكاملة على الأراضي السورية، بما في ذلك مناطق الشمال لكنه يواجه تحديات كبيرة تتعلق بإعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي واستعادة الدعم السياسي والاقتصادي.
معوقات التقارب 
مسار التطبيع بين دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق يعتمد على عدة عوامل بنيوية متشابكة، فإذا لم تأخذ بها بشكل كامل، فستظل هناك معوقات قائمة، ولن يتم الوصول إلى التقارب المأمول، وهذه العوامل كالآتي:
1-يبدو أن مسار التقارب بين دولة الاحتلال التركي وحكومة دمشق ما زال بعيد المنال، وذلك بسبب سعي الطرفين لتغيير خارطة النفوذ العسكري المجمدة، مما أدى إلى تشكيل موقف ثابت يعوق عملية التقارب، فمن المتوقع أن ترفض حكومة دمشق الشروع في المحادثات الثنائية على المستوى السياسي قبل الاتفاق على جدولة انسحاب جيش الاحتلال التركي من شمال غرب سوريا. في المقابل، يرفض الاحتلال هذا المطلب، لأن وجود قواته يعده ضمانة لحفظ أمنه القومي، ناهيك عن إدراكه أن الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا تحتفظ بأدوات قوة وترسانة من الأسلحة المتطورة، إلا أن انسحابها سيؤدي إلى عودة تدفق اللاجئين الرافضين لحاكمية حكومة دمشق مع ادعاءات ربط تلك المخاوف بمخاطر أمنية، خاصة في ظل الانقسامات السياسية الداخلية وسط مساعي من حزب العدالة والتنمية لتقليل الاستثمار السياسي في هذا الملف داخلياً.
2-يكون الموقف الغربي والأمريكي معرقلاً لتلك المساعي؛ لأنهما يرفضان التقارب كله، بينما لا يزال الاحتلال حريصاً على توزان علاقاته، لهذا فإنّ إحداث تغيير واضح في سياسة الحياد الإيجابي حتى الآن لم تظهر له مؤشرات بعد، والأكثر تعقيداً في هذا السياق هو صعوبة معالجة روسيا وإيران وحكومة دمشق لملف الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا بشأن إنهاء تواجدها عبر العمليات العدوانية التي تطمح أنقرة لتنفيذها. ومن الملاحظ أن موقف الاحتلال التركي يراوغ تجاه العملية السياسية السورية وسط التزامه لما يسمى بالمعارضة السورية لإيجاد صيغة توافقية تضمن إشراكهم في صياغة معادلة جديدة للحكم، غير أن هذا النهج يتعارض مع موقف حكومة دمشق التي تصرّ على الحل العسكري أو إتباع دبلوماسية مواربة، وتسعى لإقصاء خصومها واستعادة السيطرة الكاملة على الأراضي السورية دون تقديم أي تنازلات سياسية.
3-لا شك أن حكومة دمشق تجد صعوبة في التغلب على مجموعة من العقبات أمام مسار التقارب. فبسبب بنيتها الداخلية وفلسفتها السياسية، يتعين عليها التعامل مع ملفات عديدة مثل: ملف المخدرات، والتموضع الإيراني، وقضية اللاجئين السوريين. فبالنسبة لملف المخدرات، يطالب المجتمع الدولي حكومة دمشق باتخاذ إجراءات عملية لحله، وهو أمر يثبت عكس ذلك إذ يشكل مصدر دخل قوي في خزائنه. كما أن تخليص سوريا من التموضع الإيراني يرتبط ببنية النظام وتاريخه، ما يجعل التعامل معه أمراً صعباً. وفيما يخص قضية اللاجئين، تفتقر حكومة دمشق إلى القدرة على توفير بيئة آمنة وملائمة لعودتهم، سواء لاعتبارات اقتصادية أو أمنية أو سياسية، كما أن اللاجئين أنفسهم يربطون عودتهم بتحقيق تحول سياسي وتوفير بيئة آمنة تضمن لهم العودة الكريمة. خذ بالاعتبار أن تعديل حكومة دمشق سلوكها ونهجها محوراً أساسياً، إذ يعد هذا تنازل غير مسبوق نظراً لصرامته في التعامل مع ملفاته المختلفة، فغالباً ما يكون التنازل شكلياً، ويشمل هذا التغيير التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية، مع التزامه بعدم الإخلال بأمن المنطقة.