سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

التفكّك الأسريّ وضرُّره على التربية والمجتمع

  عبد الله رحيل_

إن أساس المجتمعات عامة، وبدأة التكوين الأمثل للعلاقات الاجتماعية القائمة على مبدأ التفاعلية والمشاركة هو الأسرة، لأنها تُعدُّ البنية الأولى لبناء مجتمع قوي متطوّر بنّاء نحو قيادة الجماعات إلى التطور، والقوة، وبلوغ أهداف الحياة النبيلة؛ لما للأسرة من دور هامِّ، ومحوريّ في تنشئة الأبناء، وتعليمهم أسس العيش السليم والقويم.
منذ الأزل، ومنذ بدء التاريخ البشري، وقيام المجتمع على اختلاف مكوناته، شغل علماء النفس، والاجتماع تقويم الأسرة، وبيان دورها الحساس، والوظيفي في تنظيم العلاقة بين أفرادها على الوجه الإيجابي المنظّم، وتهيئة التفاعل بين أفرادها لقيام مجتمع كبير، تسوده الألفة والتمازج، وفق مصالح متبادلة.
وقد نشأت عن هذا التقويم نظريات عديدة، وعناية تربوية تصل إلى المرحلة الفاضلة، تُعنى بالأسرة، وتؤكد دورها العميق، والأول في بناء المجتمع المثالي؛ لما لها من أهمية في التنشئة الأولى للأفراد عامّة، فقد أجمع معظم علماء النفس والمجتمع: “إن الأسرة هي اللبنة الأساسية، والأولى لتنشئة الفرد، وتأطيره”؛ ليكون العامل الأشمل لقيام مجتمع نبيل، وفي هذا المعنى تكون الأسرة: “هي مجموعة حميمةٌ من الأشخاص، الذين تربطهم القرابة، وهي المؤسسة التربوية الرئيسية، التي تقوم بتربية الأطفال بشكلٍ سليم، كما إنها إحدى الوحدات الاجتماعية، التي قاومت تغيرات الزمن، وتطوراته”.
إذاً، فمن هذا العرض العام لأهمية الأسرة؛ ينتج دور الأسرة الفعّال، والأساسيّ لقيام مجتمع متطوّر خالٍ، قدر الاستطاعة، من الانحراف والرذيلة، لكن، إذا حصل خلل لمفهوم ودور الأسرة، يدبّ الوهن، والضعف في بناء المجتمع الأساسي، فيحدث التفكّك، الذي يمكن أن يكون الحدث الأهم في خراب وضياع الأسرة، والمجتمع معاً.

مفهوم التفكّك الأسريّ
وقد ظهر مفهوم التفكّك الأسري في المجتمع، أنّه حالة من الاضطراب العاطفي في الأسرة، والعائلة، ويكون بجدل وبصراع دائم بين الأبوين، تلك الحالة، التي تؤدي إلى العنف الجسدي، واللفظي، وعند تكرار هذه الحالة يوماً بعد يوم يتشكّل الخلل النفسي لدى الأولاد، ويولّد شعوراً بالخوف، والرهبة، والعدوان في التصرفات، التي يمكن فيما بعد أن تكون طريقاً نحو الجريمة، والفساد الاجتماعي، والانحراف نحو السلوكيّات السيئة في ظل انشغال الوالدين بالمشكلات، وغياب الاهتمام عن التركيز في التربية السلمية؛ لذلك يعد من أخطر أنواع المشكلات الاجتماعية، التي ينعكس تأثيرها سلبًا على أفراد العائلة، وخاصة الأطفال، والأبوين، وعلى الأسرة بكينونتها، ويستمر ضرره إلى المجتمع عامة.
الأسباب الكامنة وراء التفكّك
ويحدث التفكّك الأسريّ عند كثير من الأسر، بمسبّبات وتصرّفات غير مسؤولة من جانب الأبوين أولاً، وفي البداية، ويمكن أن تجتمع هذه التصرفات غير المسؤولة بعقبات يمكن تجاوزها؛ إن حدث حوار حضاريّ متفهِّم لأصول العلاقة الأسرية، وتجاوز بعض الخلافات، لكنّ الأسباب يمكن أن تتمخّض بما هو آتٍ:
ممارسة التحكّم اللامنهجي، والعنيف من أحد الأبوين في إدارة شؤون المنزل والأسرة، هذا التحكم الذي يكون بضعف شخصية أحدهما، أو ضعف المستوى العلمي، أو الجهل في سوء أخذ القرارات المتعلّقة بالأسرة؛ فيُحدِث نوعاً من الصدام وخسارة رأي الآخر، وتنشأ ردة فعل سلبية من أحدهما على فعل الآخر، وبذلك ينتج نوعٌ من غياب الثقة عند الآخر؛ فتوجد شرخاً في العلاقة الودية القائمة.
ويأتي ضعف الاتصال، وغياب طرح المشكلات بشكل حواري بين أفراد العائلة، وتزمُّت أحد الطرفين في حلّها؛ بعيداً عن الآخر، فتُتَّخذ القرارات بهذا التفرّد دون استشارة الآخر؛ ما يولّد شعوراً بالخسارة، والضياع، والإهمال، وسخرية أحدهما من رأي الآخر، فتُقوى الصراعات النفسية، والعقد العقلية، وخاصة عند الأطفال والمراهقين منهم؛ ما يولّد شعوراً باليأس في حل المشكلات، وتزداد حدة النقاشات غير المسؤولة والهادمة، أمام الأطفال، الذين يعيشون هذه الحالة بشكل يومي؛ الأمر الذي يجعل طبيعة المنزل متأزّمة، وخارجة عن حدود الحبّ، والوئام، والاحترام.
لكن يعد غياب الأب الدائم، وانشغاله عن أمور الأسرة من الأسباب الرئيسة الكبيرة في نشأة التفكّك الأسري، فيقضي الأب معظم وقته، إما منشغلاً بأعماله، التي لا تنتهي، أو بغيابه في المقاهي، أو وراء أساليب رفاهيته، فتشعر الزوجة بالتذمّر والضيق، فيفقدها العلاقة الروحانية للأسرة؛ فتُهمل دورها، أو لا تستطيع السيطرة على مسؤوليات الأسرة، فبالتالي يحدث شرخاً في العلاقة بينهما يوماً بعد آخر، ويعيش الأولاد جحيم الفراق، والإهمال التربوي الهادم، ومن ذلك أيضاً الأم الحاضرة الغائبة، فالمرأة المنشغلة بعملها عن أسرتها، أو منشغلة وراء اهتماماتها، وما يدور في أجهزة الاتصال الحديث، أو تتجاهل نسبياً احتياجات الزوج، التي قد لا تمنحه بعض العناية بشؤونه الخاصة، واحتياجاته، ذلك كله يولد جواً مشحوناً من الأزمات النفسية، التي تنفجر عند أول حالة نقاش عن أمر معين، أما الأطفال الذين بدورهم يعانون من هذا التضخم الشعوري، الذي يجعلهم عرضة للخوف، وضعف الشخصية، والاخفاق في العلاقات الاجتماعية مستقبلاً.
علاج مشكلة التفكُّك والحدُّ منها
يتوجب على الأبوين منذ بداية تنشئة الأسرة، الاحترام المتبادل في وجهات النظر، والتآلف في مناقشة الصعوبات، وطرح حلول المشكلات وفق معايير الحوار، الذي يفضي إلى الاجتماع، وتجاوز حدة الخلاف لمناقشة أمور بسيطة، عبر تحاورها بعناية بعيداً عن الأولاد، وفي جوّ من الهدوء النسبي.
فتقوية العلاقة الأسرية في خلق جوّ من الألفة، والمحبّة، وطرح مواضيع ثقافية بسيطة، يتم الحديث عنها مع أفراد الأسرة كلّها، واحترام أي رأي، وإن كان خاطئاً، بعيداً عن الفوقية، والتهكم اللفظي، وممارسة مسابقات أدبية، أو علمية، أو ثقافية في بعض أيام الأسبوع، في وقت الاجتماع العائلي، وفي جوٍّ يسوده الفرح والوفاق، والصداقة. كما ويمكن أن يكون الإعلام عاملاً رئيساً في تنشئة الأسرة، وبث روح التوافق الأسري في برامج تربوية هادفة من خلال اللقاءات، والحوارات التلفازية، الرامية لطرح قضايا التربية، وأصول التعامل مع أفراد الأسرة.
وإذا ما نظرنا إلى روح المشكلة وخطورتها على الأسرة، والمجتمع بأكمله؛ نجد أن الشعور بالانتماء إلى الكيان الأسري، وتوليته الأهمية الكبيرة في رسم قانون منطقي له، مبني على أساس العلاقة الزوجية القائمة على اللطف، والتسامح، والحب، والحنان، هو الحل الأمثل لهذا التفكك، الذي يمكن أن يودي إلى الضياح والتهلكة في طريق التشرد الاجتماعي، ومن ثم ضعف المجتمع وتدميره، لكن ثمة علاج مهم، وذكي بقيام روح التعاون بين الزوجين، وردف أحدهما للآخر، وتبني رؤية دور الزوجة الصالحة، وإعطائها الفرصة المثلى لقيادة الأسرة بتدبُّر وتعقُّل وحكمة، وكثيراً من المشاركة والتعاون في حل المشكلات، وتوليتهما الدائمة في رسم سياسة الأسرة التربوية، فيمكن لذلك أن ينشئ جيلاً كاملاً ذا قيمة كبيرة ورائدة وقيادية في المجتمع، بعيداً عن التفكك، والضياع، وتأكيداً لمقولة: “وراء كل رجل عظيم، وكل أسرة قوية متينة، وكل مجتمع سام نبيل، امرأة عظيمة نبيلة”.