عدم استناد التجربة الإدارية في باشور كردستان إلى أساس وطني قوي، وتبعيتها لدولة الاحتلال التركي، واضمحلال حقوق الشعب، تعرضها لخطر الانهيار في ظل الصراعات في الشرق الأوسط.
تتسارع وتيرة الفرز بين القوى والكيانات والدول في منطقة الشرق الأوسط، هذا الفرز الناجم عن التطورات المتسارعة التي تجري على هذه الرقعة الجغرافية. فما يجري في الشرق الأوسط ليس عبارة عن حرب تقليدية تجري بين جيشي دولتين، وإنما هي معركة كسر عظم تضمحل فيها بعض القوى، لتحل محلها قوى جديدة تصارع من أجل البقاء.
رأس الحربة في هذه الحرب هي دولة الاحتلال التركي وإسرائيل، والتي تسعى كل منهما إلى تثبيت قدمها في الخارطة الجديدة التي تُرسم للمنطقة، هاتان الدولتان تسعيا لهدفهما بغض النظر عن الطريق، الذي يمكن أن يوصلهما إلى هذا الهدف، على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة.
وفي مسعاهما هذا، تكون الشعوب هي الضحية الأولى، التي تدفع الفاتورة الأعظم في هذه الحرب، فلا يخفى على أحد المجازر، التي ترتكبها دولة الاحتلال التركي بحق الشعوب، ولا سيما الشعب الكردي في كل من جبال كردستان وباشور كردستان وإقليم شمال وشرق سوريا.
وعلى المقلب الآخر، تستمر حصيلة ضحايا الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس على حساب الشعب الفلسطيني بازدياد يوما بعد آخر، في صورة تبدو متشابهة في هاتين الجغرافيتين، وكل ذلك دون أي تدخل من أي قوى إقليمية أو دولية للحد من هذه المجازر.
البحث عن الحلقة الأضعف
في المجازر، التي ترتكب بحق الشعوب، تكون الأنظمة المحلية مساهمة فيها بهذا الشكل أو ذاك، وذلك في سبيل المحافظة على هيمنتها على مقاليد الحكم في تلك الدول. وكما عادة الدول الطامعة، تستغل هذه الحكام لتنفيذ أجنداتها وسياساتها ضد شعوب المنطقة.
تبعية الأنظمة للدول المهيمنة تكون متعددة الأشكال، فمنها العسكري، ومنها السياسي، وحتى الاقتصادي، وبذلك تُهيمن هذه الدول على مقدرات هذه الشعوب، وتُرهن مستقبل هذه الشعوب بمستقبلها هي، فنرى أن أي عملية استقطاب قوية تجري تضمحل فيها بعض الكيانات، وحتى الدول التي لا تكون لها أي رصيد شعبي وطني.
“باشور كردستان ولاية تركية”
من أبرز الأمثلة على تبعية الأنظمة والحكومات للدول المهيمنة هي سلطات الحزب الديمقراطي الكردستاني في باشور كردستان، فلم ننسَ بعد، كيف أنشئت هذه التجربة الإدارية في أعقاب تناقضات إقليمية فرضت فيها الأنظمة الإقليمية، لا سيما العراق وإيران أجنداتهما على باشور كردستان. ونتيجة بازارات سياسية، وبناء على تنازلات وطنية قدمتها سلطات الديمقراطي الكردستاني، بُنيت هذه التجربة الإدارية في باشور.
وبدلا من أن تُسخر سلطات الديمقراطي الكردستاني هذه التناقضات لتثبيت إدارة وطنية ديمقراطية في باشور كردستان، أرهنت سلطات هذا الحزب باشور كردستان بأكمله للقوى الإقليمية المتنازعة في الشرق الأوسط، وبالدرجة الأولى لأعداء الشعب الكردي، وعلى رأسهم دولة الاحتلال التركي، حتى بات مواطنو باشور كردستان غرباء في وطنهم.
التبعية السياسية للاحتلال
تتفاخر سلطات الديمقراطي الكردستاني بالعلاقات الحميمية، التي تربطها مع دولة الاحتلال التركي، هذه العلاقات القائمة على مبدأ السيد التركي، والعبد البارزاني، والتي تكون فيها مصالح الشعب في باشور كردستان موضوعة على الرف، ولا يُسمح الحديث عنها، ولا بأي شكل من الأشكال.
يتجلى ذلك من خلال الزيارات المتبادلة والمتكررة بين سلطات العدالة والتنمية والديمقراطية الكردستاني، والتي كانت آخرها زيارة أردوغان إلى هولير، وإضاءة علم دولة الاحتلال التركي على قلعة هولير، والتي تعدُّ رمزاً تاريخياً وطنياً للشعب الكردي.
ولم يُنسَ بعد، تلك التعليمات التي تلقتها سلطات الديمقراطي الكردستاني من معلمها التركي، والتي سمتها في حينه بـ (الاتفاقيات بين الجانبين)، حيث لم تكن سوى توجيه أوامر بوجوب تسهيل الطريق أمام جيش الاحتلال التركي برياً لاجتياح أراضي باشور كردستان، وكذلك تأمين المعلومات الاستخباراتية لطائرات دولة الاحتلال التركي لشن هجماتها على مقاتلي حركة التحرر الكردستانية في جبال كردستان.
التبعية العسكرية المطلقة
إن الحديث عن التبعية العسكرية المطلقة لسلطات الديمقراطي الكردستاني لصالح دولة الاحتلال التركي لم يعد بحاجة للكثير من البحث والتحليل، فهذه التبعية وصلت حد العمالة المكشوفة، التي لم تعد تُغطى بأي غطاء، فلا تزال سلطات الديمقراطي الكردستاني تتعاون مع دولة الاحتلال التركي في شن حربها ضد الشعب الكردي، وتقدم لها التسهيلات اللازمة لهذا الغرض.
فأعداد الشهداء، الذين ارتقوا للشهادة من الشعب والقوى العسكرية الكردية على يد دولة الاحتلال التركي بسبب عمالة الديمقراطي الكردستاني باتت علنية وهي مع الأسف في تزايد مستمر. كما أن توغل دولة الاحتلال التركي في باشور كردستان، كما يجري اليوم في دهوك على مرأى من سلطات الديمقراطي الكردستاني، باتت تُزيح الستار الذي لطالما كان يغطي نوايا وأهداف سلطات هذا الحزب.
التبعية الاقتصادية العمياء
لم تكتفِ سلطات الديمقراطي الكردستاني برهن قراراها العسكري والسياسي بيد دولة الاحتلال التركي، بل أنها ذهبت أبعد من ذلك، من خلال رهن قرارها الاقتصادي أيضا، أي أنها بذلك جعلت لقمة شعب باشور كردستان في يد المحتل التركي، وذلك من خلال العديد من الامتيازات، التي قدمتها سلطات الديمقراطي الكردستاني للشركات التجارية التركية.
تتجلى هذه الامتيازات في العديد من الأمور، من بينها التصدير غير المحدود لنفط باشور كردستان إلى دولة الاحتلال التركي، وحرمان الشعب في باشور من خيرات وطنه، والعيش في ظل غلاء مدقع في الأسعار وتدني مريع للأجور.
إلى جانب ذلك، تستمر الشركات التجارية التركية بالاستثمار على أراضي باشور كردستان، مستفيدة من خيراتها الباطنية، وموادها الأولية، ومشغلة الأيدي العاملة التركية، الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد جيش العاطلين عن العمل بين شباب باشور كردستان.
لقد تصدرت الشركات التركية قائمة الشركات الأجنبية العاملة في باشور كردستان من حيث العدد، فمن بين 3013 شركة أجنبية عاملة في باشور كردستان هناك 1351 شركة تركية في آخر إحصائية صادرة عن دائرة تسجيل الشّركات الأجنبية التابعة لوزارة التجارة في باشور كردستان، وتفوق نسبة دولة الاحتلال التركي الـ75% من هذه الاستثمارات. كما زادت نسبة التجارة التي شهدت اكتساح الشركات التركية لسوق باشور كردستان، بالإضافة إلى بناء خط الأنابيب الذي يتيح لسلطات الديمقراطي الكردستاني تصدير نفط باشور كردستان وغازها بشكل مستقل إلى الأسواق التركية.
وتأتي “الأحجار الكريمة، والبلاستيك والمطاط، ومواد البناء والأثاث، ومواد الطحن، والقمح، ولحوم الدجاج والبيض والمنسوجات، والملابس” في مقدمة الصادرات التركية إلى باشور كردستان، ليتبين لنا بأنه حتى رغيف الخبز في باشور كردستان بات مرهوناً بإرادة دولة الاحتلال التركي.
باشور كردستان على المحك
من خلال هذا السرد، يتبين بأن سلطات الديمقراطي الكردستاني لم تسمح لشعب باشور كردستان بادخار أي رصيد وطني يمكنه مجابهة التحديات التي يمكن أن تواجهه في أي لحظة، خاصة وأن دولة الاحتلال التركي لم تسمح بوجود أي كيان كردي أينما كان. وأن الحرب التركية على باشور كردستان وشعبه وتجربته الإدارية قادمة لا محال.
وفي ظل الصراعات الإقليمية الجارية، فإن الكيانات الحديثة المنشأ ستكون معرضة للزوال بشكل نهائي عن الوجود، لا سيما وأن نتيجة هذه الصراعات ستؤدي إلى عودة كل دولة إلى حجمها الطبيعي. أي أن الأطماع التوسعية الاحتلالية لدولة الاحتلال التركي ستصل إلى مداها الأقصى، ومن ثم تبدأ بالانحدار.
ونتيجة ذلك، فإن الدول والكيانات، وعلى رأسها تجربة باشور كردستان الإدارية، ستكون عرضة لهزات كبيرة يمكن أن يحل بها ما حل بجمهورية مهاباد مع اختلاف الأسباب، والسبب في اضمحلال تجربة باشور كردستان الإدارية هو عدم وجود أساس وطني قوي مبني عليها، وإنما أساس مسبق التصنيع تزول بعد أدائها للمهمة الموكلة إليها من منشئيها، وبذلك تكون سلطات الديمقراطي الكردستاني قد قضت على آمال شعب باشور كردستان في ترسيخ هذه التجربة وتطويرها والمحافظة عليها.