تعطي دمشق نموذجاً رائعاً عن نشأة العمارة الإسلامية وتطورها، فمدينة الأسواق والخانات والأبواب والطرقات التجارية التاريخية تتباهى بما تمتلكه من تراث عريق لأجمل فنون العمارة الإسلامية من قصور وبيوت عربية، تتوزع في جزئها القديم وتُعدُّ من أبرز معالمها. ويعود تاريخ البيت الدمشقي إلى القرنين الـ 17 والـ 18، واستمر إلى أن دخلت دمشق العصر الحديث وتأثرت بنمط العمران الأوروبي في منتصف القرن الـ 19، وهو نوع من العمارة الخاصة بدمشق التي نجحت حتى الآن في المحافظة على قسم كبير منها في المدينة القديمة، خصوصاً داخل السور القديم، حيث تختلف البيوت الدمشقية عن بعضها في المساحة وفي تعدد مرافقها وفي تزيينها ونقشها، ولكن التشابه ثابت في ملامحها العامة وأساسيات عناصر تكوينها.
فلسفة خاصة
طبّقت البيوت الدمشقية نظرية الانفتاح صوب الداخل، بحيث تحقق بذلك الخصوصية التامة والاستقلالية وفي الوقت ذاته الحماية المناخية، إضافة إلى المداخل المنكسرة التي انطلقت من اعتبارات اجتماعية ودفاعية، فالمدخل لا ينفتح مباشرة على الفناء، بل على ممر ضيق منخفض السقف يُسمى “الدهليز”، ينكسر بزاوية قائمة في نهايته، لينفتح على الفناء الداخلي الذي يحقق بدوره قاعدة التضاد العضوي والبيئي في المسكن، من خلال التغلّب على تقلبات المناخ وتحقيق التكييف الطبيعي الذاتي بالخضرة والمياه، إلى جانب تأمين الإنارة والتهوية للغرف والقاعات المحيطة به.
عناصر التوزيع العام
للبيت الدمشقي عناصر رئيسة عامة وعناصر داخلية تفصيلية. وحين نتحدث عن عناصر التوزيع العام، تظهر لدينا ثلاثة أجزاء رئيسة: السلاملك أو جناح الاستقبال (الخارجي) وهو الجناح المخصص لاستقبال الضيوف، الذي يحتل الجزء المباشر والقريب من مدخل البيت العام، والحرملك أو جناح المعيشة (الداخلي)، وهو الجناح المخصص للأسرة، والخدملك أو جناح الخدمة موجود عادة في البيوت الكبيرة، وهو جناح مخصص للخدم من حارس وخادم وطاهٍ وغيره.
العناصر الرئيسة
أول ما يمر به الزائر إلى منزل دمشقي “باب الزقاق”، وهو باب واسع يُستعمل لإدخال الأغراض الضخمة إلى المنزل، يحوي ضمنه باباً صغيراً يُسمى “الخوخة” ويكون على شكل قوس في أعلاه يسمح بمرور الأشخاص فقط، ثم ممر ضيّق ومُظلم نوعاً ما، يُسمى “الدهليز” الذي ينفتح على “أرض الديار”، وهي باحة سماوية كبيرة تتوسطها بحرة رخامية.
ومن أبرز عناصر البيت الدمشقي الإيوان “الليوان” الذي يهيمن على وسط الواجهة الجنوبية، وينفتح مباشرة على الباحة السماوية ويرتفع حوالى 50 سم عنها، وهو يتألف من ثلاثة جدران بارتفاع طابقين تقريباً، يعتليه قوس كبير يحدد اتجاه القبلة، مزخرف بالنقوش الحجرية النباتية، بما يتناسب مع زخرفة جدران الصحن والإيوان. ولهذا القوس ركيزتان مزخرفتان من الحجر الصلد، ثم تتصل الزخرفة بانسجام وتوافق على جدران الإيوان وحول أبواب القاعات والنوافذ المطلة عليه، وقد صُمّم الإيوان بشكل لا تنقطع عنه الشمس، إلاّ عند المغيب.
في الطابق الأول من البيت الدمشقي، غرف الاستقبال والغرف السكنية والغرف التي تطل على الفناءات الداخلية. أما في الطابق الثاني، فغرف المعيشة وغرف النوم، التي تُقسّم إلى قسمين: قسم مرتفع بحدود 50 سنتمتراً عن أرضية الغرفة ويُسمى المجلس وهو يحتل ثلاثة أرباع مساحة الغرفة، وقسم منخفض يُسمى العتبة ويحتل الربع الباقي من المساحة، حيث تكسى الجدران بكسوة خشبية ملونة تتوجها الزخارف الخشبية الجميلة. كما تحتوي على فجوة ذات رفوف في الجدار، تُستخدم لوضع الكتب وتُسمى “الكتبية”، وفجوة ذات درفتين مصنوعتين من الخشب أو الزجاج لإظهار التحف الموجودة داخلها.
ميّزات البيت الدمشقي
إحدى أهم ميزات البيت الدمشقي هي التنويع في الزخرفة المصنوعة من مواد مختلفة، كالخشب الملون والرخام والحجر، التي تعتمد بالدرجة الأولى على العناصر الهندسية الكبيرة والرقيقة والمتناظرة وعلى العناصر النباتية الخاضعة لتنسيق هندسي دقيق، انتشر استعماله في العمارة الإسلامية ونراها تحيط بالألواح الرخامية والأقواس في القاعات الرئيسة.
الميزة الثانية هي تنظيمه المعماري وتنوع المواد الإنشائية المستخدمة في بنائه (طين وخشب وحجر) ذات الطبيعة العازلة، بحيث توفر الرطوبة في الصيف والحرارة في الشتاء، إضافة إلى وجود نباتات ارتبط اسمها بالبيت الدمشقي مثل (النارنج واللبلاب والخشخاش والياسمين والكباد)، ذات المواصفات الوظيفية والجمالية التي تساعد في تلطيف الجو وإنعاشه، إلى جانب الاستفادة من ثمارها وأزهارها وأوراقها.
المؤثرات المناخية
بسبب الخصائص المناخية لمدينة دمشق، اجتهد المعماري الدمشقي لحماية البيت الدمشقي وعزله عن المؤثرات الخارجية، عبر حلول عدّة ذكرها زكريا محمد كبريت في كتابه “البيت الدمشقي”، أولها اتباع الحل المتضام (compact) في تجميع المباني، نتج منه التقليل من تعرض الأسطح الخارجية لهذه المباني لأشعة الشمس الحارقة، كما أدى إلى تظليل بعض المباني لما جاورها من مبانٍ أخرى، ومن ثم أصبحت الطاقة الحرارية النافذة إلى داخل المبنى محدودة.
ثانياً، تركت فكرة تجميع البيت حول فناء داخلي، آثارها الإيجابية من الناحية المناخية، فساعدت في خفض درجة الحرارة من الظلال الناتجة من تقابل أضلاع الصحن وانعكاس أشعة الشمس على سطح أرضيته، إضافة إلى عمل البحرة على ترطيب الهواء الجاف وتبريده، إذ تعمل كمكيف طبيعي، فترطب هواء المنزل من خلال قلب مائي يسمح للهواء البارد بالنزول ليلاً ويطرد الهواء الساخن.
ثالثاً، الحوائط التي ساعدت في الاحتفاظ بدرجات الحرارة الداخلية بعيداً من التقلبات الخارجية في درجات الحرارة، وذلك من خلال استعمال السميكة منها والمدهونة بالأبيض. وجاء استعمال اللون الأبيض كطلاء للواجهات الداخلية أو الحيطان الخارجية، عاملاً مساعداً لتخفيف أثر أشعة الشمس ولمنع الجدران من حفظ حرارتها.
رابعاً الأسقف، إذ كان لاستعمال الخشب والطوب واللبن كمواد إنشائية في أسقف البيوت، الأثر الكبير في عزل حرارة البيت الداخلية عن تقلبات الجو الخارجي، عدا عن أن ارتفاع سقف الإيوان والقاعات يعادل ارتفاع طابقين، مما يسمح بزيادة التهوية والرطوبة. وبذلك حقق مفهوم الاستدامة من خلال بناء هندسة مدروسة من النواحي البيئية والمناخية والاقتصادية.
الوضع الحالي
والجدير ذكره أن معظم البيوت الشامية المتبقية في دمشق القديمة تحوّلت إلى مطاعم وفنادق وأماكن لتصوير المسلسلات التلفزيونية والأفلام. وهنالك بعض البيوت الجميلة التي تلقى عناية المهتمين بالتراث الحضاري الدمشقي، مثل قصر العظم في منطقة البزورية، وبيت نظام الذي بُني عام 1772 واختير عام 1982 ليكون مقراً ونموذجاً لأعمال الترميم التي تقوم بها مديرية الآثار والمتاحف في دمشق.