لم تتوقفِ التهديداتُ التركيّة باجتياحِ الحدودِ السوريّة منذ بداية الأزمة السوريّة، وقد عملت على فبركةِ الحججِ وتوجيه الإرهابيين لتنفيذ الاعتداءاتِ على كامل المناطق الحدوديّة، ثم دخلت فعليّاً محتلةَ مناطقَ غرب الفرات، واليومَ يعلنُ أردوغان أنّ الجيش التركيّ بصددِ تنفيذ عملية عسكريّة شرق الفرات خلال أيام.
تركيا تهديدٌ للأمن الوطنيّ السوريّ
مبرراتُ أنقرة لا صِحّة لها، فالقضيةُ متعلقةٌ فقط بمخاوفِ مزعومةٍ، تترجمُ معاندتَها ورفضَها إيجادَ حلٍّ سلميّ ديمقراطيّ للقضاياِ التاريخيّة العالقة وتصديرَ مشكلاتها الداخليّة، وتستندُ لفاشيةٍ عنصريّةٍ وفكرةِ أحاديّةِ القوميّةِ وإلغاءِ ما عداها. والتهديداتُ التركيّةُ لا تقيمُ وزناً للسيادةِ الوطنيّة السوريّة، فالحدودُ السياسيّةُ فاصلٌ معترفٌ به دوليّاً يمنحُ كلّ دولة استقلاليّةَ قرارِها السياسيّ، ويحفظ خصوصيّةَ تطلعاتِ شعبِها، وأما اعتبار أيّ وجودٍ عسكريّ على أرض البلد المجاور تهديداً للأمن القوميّ، فتلك حجةٌ سخيفة؛ لأنّ من حقِّ كل دولةٍ الاحتفاظ بقواتِ حرس الحدود لضبطِ ومراقبة حركةِ العبورِ.
ولأنّ الدولةَ توصيفٌ اعتباريّ، فإنّ مهمةَ توفير الأمن وحماية الحدود تصبحُ واجبَ المواطنين في حال تقصير المؤسساتِ بأدائها، وهو تماماً ما تقومُ به قوات سوريا الديمقراطيّة، فهي قواتٌ حازت كاملَ شرائطِ الوطنيّةِ سواءٌ بتشكيلها من سوريين من كلِّ المكونات، أو مهتمها بالتصدّي للإرهاب وتطهير الأرض منه، وبالتالي هي شكلٌ من المنظومةِ الدفاعيّةِ الوطنيّة، وكان من الأولى أن تُعتبرَ أنقرة وجودَ المرتزقةِ الإرهابيين من جنسياتٍ مختلفةٍ على الحدودِ تهديداً لأمنها. كما أنّ العمليةَ العسكريّة التركية المزمعة شرق الفرات لا تحوزُ توافقَ الأوساطِ السياسيّة التركيّة، وتعارضُها أحزابٌ وازنةٌ بالبرلمان التركيّ، عدا التخوفاتِ الجدّيّة من الاصطدام مع القواتِ الأمريكيّة.
لم تشكّل مناطقُ شمال سوريا يوماً تهديداً للأمنِ التركيّ، واليوم من شأن مراكز المراقبةِ الأمريكيّةٍ فصل الحدودِ وضبطِها مجاراةً للمزاعمِ التركيّة التي قالت واشنطن أنّها “تتفهمها”، بل العكسُ صحيحٌ، فحركةُ عبورِ الحدودِ على طولِ مسار الأزمةِ السوريّة تجلّت بخروج المدنيين اللاجئين، فيما اُدخِلَ الإرهابيون والسلاح والعتاد من الطرفِ التركيّ، ولعبت أنقرة دوراً خطيراً في الأمن الوطنيّ السوريّ، ودعمت مجاميع إرهابيّة متطرفة، وحوّلت الأزمة السوريّة إلى صراعٍ طائفيّ مذهبيّ وأجّجتِ الفتنة الطائفيّة.
تروّج أنقرة صورةً مشوّهةً كليّاً عن الإدارة الذاتيّة ولا تكتفي بمجرد حرفِ الحقائقِ، بل قلبها عكسيّاً، وتوجيه اتهاماتٍ بالانفصالِ والتقسيم، فيما كلُّ إجراءاتِ الاحتلالِ التركيّ في الباب وجرابلس وعفرين تؤكّد حقيقةَ فصلها والتعاملَ معها كمناطقَ تابعةٍ لتركيا وتتبع سياسة التتريك فيها، اعتباراً من تسمية قائم مقام تركيّ والتعامل بالعملة التركيّة ورفع العلم التركيّ فوق المؤسساتِ وتغيير أسماء القرى والساحاتِ العامة حتى تصبحَ اللغةُ التركيّة متداولة بالمجتمع؛ وبالتالي فالسياسةُ التركيّة لا تستهدفُ الكردَ وحدهم، بل الهويةَ السوريّة.
الديمقراطيّة إرهابٌ تخشاه أنقرة!!
في سياقِ اعتراضِها على وجودٍ عسكريّ ممثلاً بقسد بمنطقةِ شرق الفرات مزودٍ بعتادٍ حديثٍ وبقوامٍ يتجاوزُ 30 ألف مقاتل، تصرُّ أنقرة على توصيفِ هذه القوات بأنّها كرديّة لتُسقِطَ عنها الوطنيّ، وتتجاهلُ عمداً مشاركة باقي المكوّناتِ فيها لإثارةِ العصبيات والفتنة، وتُبدي شكوكاً حول مهمتها مستقبلاً بعدما أضحت تماثلُ الجيوشَ النظاميّة، وتقول إنّ من شأن هذا القوة العسكريّة دعم المشروعٍ الفيدراليّ، وهنا تخلط أنقرة الأوراق، إذ أنّها تريدُ كاملَ مناطقَ الحدودِ بلا قوةٍ عسكريّة من أيّ شكلٍ عدا الإرهاب، وتتجاهلُ عمداً حقيقةَ الضرورةِ لمواجهةِ الإرهاب والتي كانت سببَ تأسيسِ هذه القوات، وإذا كان التهديدُ التركيّ عسكريّاً يستهدفُ شمالَ سوريا، إلا أنّه سياسيٌّ بالعمق، والمستهدفُ الحقيقيّ هو الوجودُ الأمريكيُّ، بعدما أضحت سوريا ميدانَ تنافسٍ وتدخلٍ دوليّ، يتجلّى بالوجودِ العسكريّ متعددِ الجنسيات، وتعددِ خرائطِ الحلّ السياسيّ وليس آخراً السجالُ السياسيّ على تشكيلِ اللجنة الدستوريّة.
يستندُ الخلافُ التركيّ الأمريكيّ إلى تباين مشروعيهما وتصوراتِهما عن شكلِ سوريا بالمرحلة المقبلة، وتبدي أنقرة الشكَّ بخطة واشنطن في سوريا. ولذلك؛ خلُصَ جيمس حيفري بعد زيارته الأخيرة لتركيا للقول: “هناك تباعدٌ بوجهاتِ النظر مع أنقرة”. ورغم أنّ موقفَ موسكو الحالي يُرضيها إلا أنّ أنقرة قلقةٌ من توافقٍ أمريكيّ روسيّ غير واضحِ المعالمِ حولَ صياغةٍ دستورٍ سوريّ كونفدراليّ، وتدركُ أنَّ حوارَ وفدِ مجلس سوريا الديمقراطيّة بدمشق تضمنَ طروحات حولَ المرحلةِ المقبلة في شمال سوريا.
هل واشنطن جادّةُ بالدفاعِ عن استراتيجيتها؟
ويتساءلُ كثيرون حول إمكانيّة تفضيلِ واشنطن العلاقةَ مع قوةٍ سياسيّةٍ وعسكريةٍ ناشئة والإعرِاضِ عن تركيا الدولة ذاتِ الثقل العسكريّ والاقتصاديّ والعضو الفاعل بحلف الناتو، وهناك نظرياتٌ كثيرةٌ للإجابة، والواقعُ أنَّ المسألةُ لا تتعلقُ بالإدارةِ الذاتيّةِ، فالقضيةُ تنافسٌ ذو طابعٍ دوليّ، وأنقرة تمارسُ الابتزازَ السياسيّ مع القوى الكبرى، ومجرّدُ الاختيارِ فرضيّةٌ تركيّةٌ طرحتها لتُحرِجَ واشنطن وتمرّرَ سياستها، مستفيدةً من التناقضِ القائم.
تتعاملُ القوى الكبرى مع تركيا الدولة، وليس حزبِ العدالةِ والتنميةِ، والرهانُ غير مستقرٍ على بقائه بالسلطة، فالمسألة متعلقةٌ بالمستقبل، ولهذا يخوضُ أردوغان معركةَ بقائه بدفعُ الوضع بقوةٍ للتأزم والانفجار، فيما تقدّمُ موسكو حوافزَ مغرية ليس لكسبِ أنقرة فقط، بل لإحداثِ خرقٍ استراتيجيّ في حلفِ الناتو، بعدما عادت للواجهة العالميّة وريثةُ للاتحادِ السوفييتيّ.
الردُّ الأمريكيّ جاء ثلاثيّاً عِبر ثلاث اتصالاتٍ، فالرئيسُ ترامب اتصل الجمعة بأردوغان، ونُقل عن اتفاقٍ حول الحاجة لتنسيق أكثر فعاليّة، دون تأكيدِ التوصل لاتفاق نهائيّ، وقبله الخميس اتصل وزير الخارجية مايك بومبيو بوزير الخارجية التركيّ جاويش أوغلو، واتصل الجنرال جو دانفورد رئيس الأركان المشتركة برئيس الأركان العامة التركيّ.
واشنطن تُبدي جديّةُ في الدفاع عن استراتيجيتها في سوريا والتعامل مع التهديداتِ التركيّةِ ومحاولةِ اختراقِ الحدودِ من قِبل الجيش التركيّ، وستفجّرُ بالون الاختبار التركيّ ولن تخضع للمساومة، وعندما تحلقُ الطائراتُ الأمريكيّة شرق الفرات فإنّما هي رسائل جوابيّة عمليّة، وبالتالي فالاختيارُ الافتراضيّ الذي وضعته أنقرة أمام البيت الأبيض، كان الردُّ عليه باختيارِ أحد احتمالين الأولُ أن يتجاهلَ أردوغان متغيراتِ الميدان والجديّةَ الأمريكيّة وينفذَ وعيده، وليقع ما يُحتسب وما لا يُحتسب، أو أن يلعقَ تهديداته وينفّذَ انعطافاً حاداً، ولعلَّ هذا الاحتمال أقرب مع حديث أردوغان عن منبج دون المناطق الأخرى.
مؤكد أنَّ اللعبة متشابكة، واستهدافُ الكرد هو أولوية السياسة التركيّة بما يمثلونه من مشروع ديمقراطيّ وحتى وجودٍ، لردعهم عن التفكير بقضيتهم، وأما مدّ حبلِ النجاة لبقايا مرتزقة داعش في الجيبِ الأخير في هجين شرق الفرات، فقد سبق السيفُ العذلَ، وانقطع الحبل السريّ، ومن جهة ثانية تحاولُ موسكو وأنقرة تحويلَ الأنظارِ عن إدلب حيث أحرق استعارُ الجبهةِ فيها اتفاق سوتشي.
لا رِهانَ على بقاءِ القواتِ الأمريكيّة
تأسستِ الإدارة الذاتيّة في ظروف بالغة التعقيد من الصراع المسلح، تحقيقاً لمبدأ قدرة المجتمع الاعتماد على ذاته بإدارة شؤونه وحماية نفسه، لتسقط فكرة أنّ المجتمع عالة وأنّ الحكومات من تُعيلها، ولتصحيحِ سوءِ الفهمِ التاريخي لوجودِ المكوّناتِ الأقلِ عدداً وإرساءِ نموذجِ العيشِ المشتركِ في بلدٍ محكومٍ بالتعدديّةِ الدينيّةِ والعرقيّةِ عانى مكوناتُه التاريخيّة من الإلغاءِ والتهميشِ.
تدركُ الإدارة الذاتيّة طبيعة التنافسِ الدوليّ الذي اتخذ من الجغرافيا السوريّة ميداناً له، وتعلمُ أنّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيّةَ قد تدخلت في سوريا حرصاً على مصلحتها، وتتعاملُ معه كأمرٍ واقعٍ، وهي ماضية ببناءِ المشروعِ الديمقراطيّ كحلٍّ سياسيّ شاملٍ لسوريا، ولا تراهنُ على بقاءِ مديدٍ للقواتِ الأمريكيّةِ، وتتعاطى معها من قبيلِ الانفتاح على المواقفِ الإيجابيّة للقوى الكبرى، باعتبارِ أنّ التهديدَ الإرهابيّ العابرِ للحدودِ يهدّدُ الأمنَ والسلمَ الدوليين، كما أبدتِ الإدارةُ المرونةَ نفسها بتعاطيها مع موسكو، إلا أنّ الموقفَ الروسيّ ذهب لمزيدٍ من البراغماتيّة السياسيّة في العلاقةِ مع تركيا لتطويَ الصفحاتِ الخلافيّة معها، وتقدّم الغطاءَ السياسيّ للعدوانِ على عفرين، واليوم تحاولُ أنقرة استغلالَ التنافسِ الأمريكيّ- الروسيّ وتصريحاتِ المسؤولين الروس المواربةِ تتهمُ فيها واشنطن ببناءِ كيانِ “دويلة” شرق الفرات، وتطلقَ العنانَ للتهديدِ بعملية عسكريّة فيها. والسؤالُ الذي يُفترضُ بموسكو إجابته كمحاربٍ للإرهاب، ما الفائدةُ العمليّة من إدخال المجاميع الإرهابيّة والجيش التركيّ إلى عفرين الآمنة؟ والجواب أنَّ العمليةَ إرضاءٌ لتركيا ودعمٌ لها في العدوان على الكرد وإعادةُ انتشارٍ للإرهابيين بنقلهم من منطقة إلى أخرى.
لا بدَّ من التوقف على تعريف ثلاثِ مصطلحات أساسيّة (الوطن، الدولة، والنظام السياسيّ) فالبعضُ بدأ النعيقَ مباشرةً مع إصدار الإدارة الذاتيّة بياناً طالبت فيه دمشق الاضطلاع بدورها لمواجهة التهديد التركيّ واحتمالاتِ البدءِ بعمليةٍ عسكريّةٍ شرق الفرات، فالحقيقةُ أنّ الإدارة الذاتيّة أكّدت دائماً تمسّكها بالوطنيّة والهوية والسيادةِ السوريّة والحرصَ على الدولةِ بمؤسساتها ومرافقها الخدميّة ووحدةِ الأرض السوريّة ورفضَ التقسيم والاحتلال، وأعلنت مِراراً تحفظاتِها على أداءِ النظام، وانفتاحَها على كلِّ أشكالِ الحوارِ للتوافق حول النظامِ السياسيّ والإداريّ والاجتماعيّ، بالتوازي مع التأكيدِ على حلٍّ وطنيّ ورفض الشروط والإملاءات الخارجيّة، وفي هذا السياق بدأ الحوار مع دمشق.
الحوارُ مع دمشق تُملُيه الضرورةُ الوطنيّةُ، وكانتِ الإدارةُ الذاتيّةُ شفّافةً بهذا الصدد، وأبدت إيجابيّةً كاملةً في كلِّ ما من شأنه تسييرَ الحياةِ وتخطّي العقباتِ بالمجالِ الخدميّ وتحييدِ المسائل الخدميّة من السجالِ السياسيّ القائم، باعتبارِ مصلحةِ المواطنين منطلقاً أساسيّاً لأيّ قرارٍ أو مشروعٍ، وسبق ذلك حالاتُ تنسيقٍ بالمجالات الخدميّة كما في مسألة تفعيلِ سدّ الفرات لتوفير الطاقة، ويمكنُ القولُ بثقةٍ إنّ مشروعَ الإدارةِ الذاتيّةِ قام على هذا الأساس، وليس سراً وجودُ مراكز تابعةٌ للنظامِ بمدينتي قامشلو وحسكه، وفي هذا الإطارِ جاء فتحُ المكتبِ القنصليّ التابع لوزارةِ الخارجيّةِ والمغتربين في مدينة حسكه لتسييرِ معاملاتِ المواطنين. وقضية التهديد الخارجيّ تتصل بالأمن الوطنيّ والمواطنين، وهي من مهام الجيش النظاميّ باعتباره مؤسسة وطنيّة، تحددُ الظروفُ طبيعة مهمته ومكانَ تواجده، وإذا كانت بوصلة البعضِ الوطنيّة قد تاهت تماماً فاستنجد بالجيش التركيّ المحتل، فالإدارة الذاتيّة تقيم الحجّة بعد الحجّة على وطنيّة مشروعها وتوجّهاتها.
المسألة تتعلق بكلّ تأكيد بموقفِ دمشق إزاء حالاتِ اختراقِ جيشِ الاحتلال التركيّ للحدود، فمجرّدُ البياناتِ والتصريحاتِ لا يرقى للمسؤوليّةِ الوطنيّةِ ولن يردعَ العدوانَ ويمنعَ الاحتلال، ودمشق مُطالبَةً باتخاذ قرار حاسم، وألا تخضعَ لتوصياتِ موسكو، وخلال العدوان على عفرين تدخّلت موسكو ومنعت مشاركة الجيشِ السوريّ، ليمضيَ الاحتلالُ التركيّ بتنفيذِ مخططه.
باختصار يستمرُ الامتحانُ السوريّ، وفي كلِّ منطقةٍ اختبارٌ، ويضعُ اختبارُ الحدودِ اليومَ الكلّ أمام مسؤولياتهم، وموسكو فيما يبدو للرائي حزمت أمرها بالوقوف إلى جانب أنقرة في سياستها، ووفقَ المعطى السياسيّ؛ فإنَّ دمشق وواشنطن على تناقضهما مطالبتان بإبداءِ موقفٍ حازمٍ تجاه التهديد التركيّ، فالأولى لاعتباراتٍ تتصلُ بالسيادةِ الوطنيّةِ، أما واشنطن فهي المعنية باطناً بالتهديدِ وعليها الرد عليه. وأما الإدارة الذاتيّة ومعها أبناء شمال سوريا فلن يدّخروا جهداً في هذا السبيل.