لم يبالغ أحد النقاد الفرنسيين في وصف رواية الإيرانية ــ السويسرية سيسيل لجالي الأخيرة، “ابنة لا أحد”، بـ “الجوهرة”. فسواء في سطوة لغتها الشعرية، أو في هندستها المبتكَرة، أو في قصّتها الثرية بالموضوعات والشخصيات المهمة، تشكّل هذه الرواية تحفةً أدبية.
“ابنة لا أحد”، التي صدرت حديثاً عن دار “أكت سود” الباريسية، لا تنير فقط حياة كاتبين كبيرين هما التشيكي فرانز كافكا والإيراني صادق هدايت، بل تغوص أيضاً بنا داخل عمل كلّ منهما الكتابي، كاشفةً أسراره وجوانب مخفيّة منه، ومستكشفةً من خلاله مِحَنة الكتابة وتمزّقاتها. وكما لو أن ذلك لا يكفي، تستحضر بين فصلٍ وآخر قصص الكتب الثمينة التي أحرقها أصحابها والمكتبات التي رمّدها البرابرة على مرّ التاريخ، مغذّيةً بالنتيجة كمّاً من الأسئلة حول فعليّ الخلق والتدمير.
لإنجاز كل ذلك، تلجأ لجالي إلى شخصية روائية نسائية تدعى لوسي نوتّي يتسلّط على حياتها شبح والدها الذي غادر أمّها مباشرةً بعد ولادتها ولا تعرف عنه سوى أنه كان قارئاً نهماً. وضمن سعيها إلى تقفّي أثره، تقود بحثين متقاطعين: بحث عن أصولها وبحث عن مصدر الإبداع. بحثان يضعانها بفعل “مصادفتين موضوعيتين” على طريق كافكا أولاً، ثم هدايت. عملاقان يتشاركان سمات كثيرة، لعل أبرزها هاجس الانتحار ورغبة ملحّة في إتلاف نصوصهما.
عملية السرد في الرواية تتوزّع على مرحلتين زمنيتين متقاطعتين: الأولى تمتد من 1910 إلى 1914، ونرى لوسي خلالها تعمل مدبّرة منزل في دار آل كافكا في مدينة براغ بهدف كسب قوتها وكتابة أطروحة الدكتوراه التي تعمل عليها، وموضوعها المكتبات التي التهمتها النيران. مرحلة تتقرّب فيها من كافكا وتصبح نجيّته والشخص الذي سيمكّنه من المحافظة على رابط بواقعٍ كان يشكك به: “غالباً ما أسرّ فرانز لي بخوفه من كونه مجرّد شبح وكتاباته مجرّد سرابات. حين كنت أصغي إليه، كنت أفكّر بأبي. أنا أيضاً ابنة لا أحد. ابنة رجلٍ عبر مدناً أتنّقل فيها من دون أن ألتقي به. ابنة قارئ نهم، كاتب بلا آثار. بطلة رواية لم تُكتَب”.
مرحلة السرد الأخرى تقع خلال الخمسينات في باريس حيث تلتقي لوسي بالصدفة هدايت داخل المكتبة التي أسّستها وترافقه حتى انتحاره: “كان يتوجّب عليّ مرافقتك. رميتَ بمخطوطاتك في الموقد. بات هواء الغرفة خانقاً. جلستَ على حقيبتك التي كنت تضع فيها أوراقك وأمسكتَ برأسك بين يديك، منهاراً. الجزء الأكبر من عملك منشور. لن تقوى النيران عليه. كان عليك عبور ذلك، وكان عليّ أن أشاهد هذا الطقس. لقد فهمته قبل قليل، تحت شجرة الدلب، حين قلت لي: أعتقد يا لوسي إنني كنت في انتظارك كي أنجز هذا المساء ما كان عليّ أن أفعله منذ زمن طويل. كان صوتك باهتاً. لكنته الفارسية الشادية كانت مطفأة. (…) أنا ظلّك. ذلك الذي تكتب له. ذلك الذي يكشف لك جانبك الحارق، ليلك وخرابه”.
من افتتانها بهذين الكاتبين ومجاورتهما ستكسب لوسي هوية، وجوداً، والدين روحيين، فتتمكن من تلطيف شعور اليتم المسلَّط عليها، بينما سيكسب صديقاها بفضلها صوتاً يقول محنتهما وعبقريتهما معاً: “بجنونهما، يسمح صديقاي الكاتبان لي بذلك اللقاء الذي يحصل في وهم الانسحاق. وفي المقابل، أساعدهما على طريقتي. أصير جوقة حياتهما. جوقة تنشد خلفهما. الجوقة التي تأوِّل في العتمة حواراتهما المتلألئة. جوقة من صمتٍ بليغ، دائمة مصغية، تمنح تضاريساً لكلماتهما. صدى لخطاباتهما. أنا ارتجاجٌ. أوتار قيثارة تقرصها أصابعهما. القيثارة التي تسير في النهر حيث يغني رأسٌ بلا جسد. أحمل الغنيمة الدامية لأيامهما وأعبر بهما من ضفة إلى أخرى”.
قراءة جديدة
“ابنة لا أحد” هو إذاً نصّ فريد من نوعه يوفّر قراءة جديدة لأعمال كافكا وهدايت وحياتهما، وبالتالي فرصة لتعلّم أشياء كثيرة حولهما، كطبيعة شخصية الأول المكتئبة وعلاقته المستحيلة بوالده التي تحلّلها لجالي بمعرفة لافتة، مستعينةً بمصدرَين: كتابات كافكا ومخيّلتها الجامحة؛ أو الوضع المادّي والسيكولوجي المؤلم الذي كان هدايت يتخبّط فيه خلال السنوات الأخيرة من حياته، وطبيعة علاقته بمجموعة أندريه بروتون السورّيالية، ومسألة عثوره في كافكا على صنو له، سواء على مستوى المشاكل العائلية التي عانى منها، أو على مستوى شغفه الحصري بالكتابة. وهو ما دفعه عام 1948 إلى نقل “في مستعمرة العقاب” إلى الفارسية وتحليل عالم كاتبها في مقدّمته لهذا العمل، ثم إلى ترجمة “الإنمساخ” واعتمادها ركيزة لروايته الأهم، “البومة العمياء”.
وحوله، تقول لجالي: “كُتُب صادق هي الأكثر سوداوية، وربما الأكثر إثارةً للقلق. لكن لأنها تمسك بالعتمة، تمنحني النور. هدايت يكتب كي نخاف أقل، نحن قرّاؤه. يكتب (وفي الوقت ذاته يقتل نفسه) كي تعيننا كلماته على عنف العالم. هكذا يتراجع الموت والقلق حين يعيد صياغتهما. رواياته تتفحّص حيواتنا. الشخصيات التي يبتكرها تضطلع بمخاوفنا وتحمل عبء أيامنا، مكاننا. إنه منظِّم هذه المذبحة. هو يمنح نفسه ونحن نتملّكه، نلتهمه. ليس الليل ما يمتصّ هدايت، إنه إدراكنا كقرّاء. وإذ لا نخجل من ارتكاب هذه الجريمة، فلأننا نعلم أنها أمنية الشاعر”.
وهذا ما يقودنا إلى موضوعٍ آخر مركزي في الرواية، ونقصد الدور الذي يؤدّيه القارئ داخل الأدب. دور تتجلى أهميته على طول النص عن طريق لوسي وعلاقتها بكافكا وهدايت، وتقول لجالي فيه على لسانها: “إنهم القرّاء الذين ينتزعون الأعمال الأدبية من اللعنة، من نيران النسيان، من غبار الساعات التي تحوّل الحبر والورق إلى غبار. (…) إدراك القارئ سدٌّ بين معنى يضيع وقصة تتراقص أمام عينيه كي يُعيد تشكيلها بقراءته. من دون قارئه، الكاتب لا شيء. ليس سوى موقِّع عدمٍ، رسالةٍ بكماء، صمّاء وعمياء. دم القارئ هو الذي يسقي جثث الكتب الجافة”.
باختصار، “ابنة لا أحد” رواية فاتنة إلى أبعد حدّ، تكمن قيمتها أولاً في جماليات لغتها التي تضارع لغتي كافكا وهدايت من دون أن تتماثل بهما. تكمن أيضاً في تمكّن لجالي داخلها من إعادة إحياء هذين العملاقين وسماحها لنا بمعاشرتهما عن قرب وفهمهما بشكل حميم، ومن خلال ذلك، بإدراك أهمية الأدب كسدٍّ في وجه اليأس، وبالتآلف مع فعل الخلق في جانبه المعتِم. تكمن أخيراً ــ وليس آخراً ــ في شخصية بطلتها التي تجسّد على أفضل وجه سلطة الحلم لدى القارئ المحيية للكتب، وينير دوّارها أمام نصوص كافكا وهدايت دوّار “العمل في السواد” ــ الخيميائي ــ الذي يختبره كل كاتب ويتغذّى منه.