بصمات يدوية مدموغة بالتراث والفن تتوزّع في أسواق حلب القديمة، تحكي قصة مقرونة بالعراقة والأصالة لمهنة صناعة النحاس وتزيينه، والتي كانت وستبقى قِبلة زوّار سوق حلب القديم.
مع إعلان انتهاء الحرب في مدينة حلب القديمة، سارع أبناء سوق النحّاسين، بكل شغف وحب، إلى ترميم محالّهم، لِيُسمعوا لحن مطارقهم المارّة والمعجبين بها، وقد ازدهرت صناعة النحاس، التي هي من الصناعات المعدنية التقليدية في بلاد الشام، وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وقد اشتهرت بها حلب، التي كانت مركزاً لهذه الصناعة، واحتفظ صُنّاعها بتقاليدها، وحدّثوا أساليبها لتتلاءم مع تطور متطلبات الحياة، وكان التجار يستوردون صفائح النحاس من الخارج ويطرقونها في محالهم لصناعة مختلف أنواع الأواني النحاسية.
جاءت صناعة النحاس من أرمينيا، حيث جلبها الأرمن إلى سوريا وتُعَدّ هذه السوق الوحيدة في الوطن العربي، التي يُصنَع النحاس فيها بطريقة يدوية، وإن وُجِدت ورشات في بعض الدول العربية، فإن أصحابها هم من السوريين، والحلبيون يصدّرونها إلى الدول العربية كلها، بالإضافة إلى أميركا وفرنسا وكندا وسويسرا، وغيرها من الدول الغربية.
كما تُعَدّ سوق النحّاسين في حلب من أقدم الأسواق الحلبية المتميزة، ويعود تاريخ بنائها إلى عام 1539، ولموقعها مكانة خاصة، فهي تبعد عن قلعة حلب نحو 800 متر. واختصّت المحالّ في هذه السوق ببيع أنواع النحاسيات، وتصنيع أشكالها الأخّاذة، والتي تعود بالمارّة إلى ذكريات الأجداد، وبيوتهم التي لطالما زُيّنت زواياها بأعمالهم الفنية، وأُثقلت رفوف مطابخهم بالأدوات المنزلية النحاسية. وضمن هذه السوق توجد صناعة الأواني وزخرفتها والنقش عليها وتلميعها وتبييضها.
مهنة الأجداد موروث الأحفاد
فعلى أصوات طرق الأواني النحاسية، وهدير الآلات يجلس محمد حسين نمرة على كرسي خشبي قديم متفائل بمستقبل أفضل لمهنة أبيه وجده بعد ما ورثها لابنه وأحفاده الستة.
محمد حسين نمرة حرفيّ في سوق النحّاسين، وأول من عاد إلى السوق، وفتح محلّه يمارس مهنته التي ورثها عن أجداده، وهو في السابعة من العمر، وبين يديه قصه تحكي مهنةً جرت في دمه حتى شبّ وشاب عليها، فصنع من لوحات صفائح النحاس المزركشة قطعاً فنية تحاكي تراث أسرته.
نقش بمطرقته معدناً لا روح فيه، وحوّله إلى تحفة تنبض بالحياة، وتنطق بفن جميل، فتزين سوق النحّاسين والآن يسعى لأن يعلّمها لأولاده، خوفاً عليها من الاندثار، وحرصاً على استمراريتها وعراقتها في العائلة.
يقول: “أصنّع الأواني والقطع النحاسية، حسب الطلب، كالصواني التي تُقدَّم فيها الحلويات والضيافة، والأباريق الكبيرة والصغيرة ومناقل الفحم، ودلال القهوة العربية القديمة، والأثاث المنزلي من الشمعدانات والفوانيس والمزهريات والسيوف وغيرها”.
ويضيف: “لمهنتنا عشق خاص، فهي تعطينا ما نريد صنعه عندما نحب هذه المهنة ونخلص لها”.
أمّا فيما يتعلق بالاستخدام المنزلي للنحاس، فيوضح أنه “أصبح شبه منعدم، فلقد انتشرت الأواني المصنوعة من الستانلس، والتيفال، والزجاج الحراري، وعلى الرغم من هذا كله، فإن اللافت في أهالي حلب أنهم لا يزالون يتمسكون بأوانيهم النحاسية، ولا يقبلون تبديلها بأي نوع آخر، وخصوصاً الطناجر النحاسية التي يكون للطهو فيها نكهة خاصة”.
ويتابع: “نحن نقوم، في كثير من الأحيان، بالعمل على تصنيع نحاسيات محدّدة، وفق طلبات الزبون، من حيث الحجم والشكل والرسوم، التي يرغب في حفرها عليها من نباتات زينة متعددة ومعروفة، أو حفر الخط والخيط العربيَّين عليها”.
فالخط العربي يُترجم في حفر أدعية دينية وآيات قرآنية، بينما يمثّل الخط العربي مجموعة متعددة من النقوش والزخارف الإسلامية القديمة.
النقش اليدوي على النحاس
توزّع حرفة صناعة النحاس في سوريا إلى اختصاصات على أفراد الورشة الواحدة، أو على عدد من الورشات بمعنى أن حرفياً ما قد يقتصر عمله على التخطيط والرسم، وآخر على تنزيل الذهب والفضة، وآخر على التجويف، وآخر على النقش وآخر على التخريق وهكذا، ونادراً ما تجتمع هذه الخبرات كلها لدى حرفي واحد.
والنحاس المتخصص بالنقش على صفائح النحاس محمد صديق (40 عاماً)، يؤكد أنه يتَّخذ من الصفائح النحاسية أشكالاً وسماكات متعددة، حسب الطلب والعرض، ثم يستعين بعدها بأدوات خاصة، أهمها القاعدة الخشبية (قب أرمه)، من أجل تثبيت السنديان عليها، والسنديان ذو أحجام كبيرة وصغيرة، وله أسماء متعدّدة، منها “رقبة الجمل”، و”إِجر الجحش”.
ويوضح: “طبعاً، لكل تسمية وظيفة تتلاءم مع القطعة المراد تصنيعها، وهناك أيضاً المطارق الحديدية للتلميع والطَّرق، وأقلام الحفر الفولاذية والأزاميل والمنشار، والنقش على النحاس هو من أصل إيراني، ولا يتباين عن نقش الصياغة، سوى في الأحجام، وله قسمان: الزخرفي والكتابي”.
ويؤكد أنه على الرغم من دخول بعض التصنيع الآلي في مهنة النحاس، فإن أهالي حلب يتمتعون باقتناء القطع النحاسية اليدوية، “لما تتميز به من الدقة المتناهية لكل نقشة شُغِلت بيد تعشق النقش على النحاس”.
تبقى حرفة النحاس مهنة عريقة تحمل إرثاً ثميناً حافظ على تاريخ الأجداد والعائلات العريقة، ونقل روحاً ثقافية شرقية معتَّقة برائحة ماضٍ مشرق في أيدٍ طرقت النحاس فأبدعت، وشكّلت لوحات تحكي لون الشمس بجمالها، وكتبت تاريخاً مهماً للمهن اليدوية، التي أغنت الموروث العربي.