التعريفُ الصحيحُ للإدارةِ هامٌّ على صعيدِ تلافي السلبياتِ وقِصَرِ النظرِ الناجمِ من مصطلحِ السلطة. الإدارةُ أيضاً كما الثقافة، ظاهرةٌ مستمرةٌ في المجتمع. وإذا عَمَّمنا أكثر، فهي تُعادِلُ تركيزَ الأعصابِ والرقيَّ الدماغيَّ على المستوى الكونيّ، وبالأخصِّ ضمن الكونِ البيولوجيّ. تُفيدُ الإدارةُ بالانتظامِ في الكونِ وبحالةِ الهربِ من الفوضى. والوضعُ الراقي لطبيعةِ المعنى ذاتِ الذكاءِ المرنِ في المجتمع، إنما يقتضي بدورِه رقيَّ القدرةِ على الإدارة. بالمقدورِ تسميةُ العقلِ الاجتماعيِّ بالإدارة. وفي هذه الحالة، من المهمِّ تحليلُ مصطلحَي الإدارةِ الذاتيةِ özyönetimوالإدارةِ الغريبةِ الأجنبية. فبينما تَقومُ الإدارةُ الذاتيةُ بتنظيمِ ومراقبةِ القُدُراتِ الكائنةِ في طبيعتِها الاجتماعية، وبالتالي تُؤَمِّنُ سيرورةَ المجتمعِ وتَضمَنُ مَأكلَه ومَأمَنَه؛ فإنّ الإدارةَ الغريبةَ «تُشَرعِنُ» نفسَها كسلطة، لتتمكنَ من إغواءِ المجتمعِ المعنيِّ وسَلبِ عقلِه (بعثرة دماغه)، ولِتَقدِرَ بالتالي على حُكمِه بعدَ تحويلِه إلى مستعمَرةٍ لديها. من هنا، فالإدارةُ الذاتيةُ تتمتعُ بأهميةٍ مصيريةٍ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما. وكيفما يستحيلُ على مجتمعٍ مفتقرٍ للإدارةِ الذاتيةِ الخلاصُ من التحولِ إلى مستعمَرة، فلا مفرَّ من فنائِه وزوالِه ضمن سياقِ الصهرِ والإبادةِ كمَآلٍ طبيعيٍّ لذلك.
تُمَثِّلُ الإداراتُ الغريبةُ عن الذاتِ أكثرَ أشكالِ السلطةِ طغياناً واستعماراً. بناءً عليه، فالمَهَمَةُّ المصيريةُوالحياتيةُ والأخلاقيةُ والعلميةُ والجماليةُ الأهمُّ على الإطلاقِ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، هي بلوغُه قوةَ الإدارةِ الذاتية. ومثلما لا يُمكنُ لمجتمعٍ قاصرٍ عن النجاحِ في هذه المَهَمَّةِ أنْ يتطورَ أخلاقياً وعلمياً وجمالياً، فإنّ تطورَه وتمأسُسَه السياسيَّ والاقتصاديَّ أيضاً يفنى ويَزول. المهمُّ هنا هو منعُ كفاءةِ الإدارةِ من حَملِ ذاتِها نحو شكلِ السلطةِ من جانب، وتَصَدّيها حتى آخرِ رمقٍ تجاه اللاإدارةِ من الجانبِ الآخر. وبقدرِ أهميةِ تحويلِ الإدارةِ إلى سلطة، فعدمُ سلبِ السلطةِ للامتيازاتِ من قبضةِ الإدارةِ أيضاً يتحلى بأهميةٍ كبيرة. فبقدرِ ما تَكُونُ السلطةُ مناهِضةً للمجتمعية، فإنّ كفاءةَ الإدارةِ مجتمعيةٌ بالمِثل. ولا تطورٌ أخلاقيٌّ أو جماليٌّ أو علميٌّ من دونِ كفاءةٍ اجتماعية. هكذا، ومن دونِ الثقافةِ والتثقفِ بالمعنى الضيق، لن يحصلَ التطورُ الاقتصاديُّ والسياسيُّ أيضاً بالمعنى الواسع. وما سيُعاشُ في وضعٍ كهذا، إنما هو الفناءُ تحت ظلِّ الاستعمارِ والصهرِ والإبادة.
بقدرِ ما يَكُونُ حُكمُ السلطةِ مناهِضاً للديمقراطيةِ في المجتمع، فالإدارةُ الذاتيةُ مرتبطةٌ بالإدارةِ الديمقراطيةِ بالدرجةِ نفسِها. وبقدرِ ما تُعَبِّرُ أشكالُ حُكمِ السلطةِ المَحضِ عن التضادِّ مع الديمقراطيةِ وإبعادِ المجتمعِ عن إدارتِه، فالإداراتُ الذاتيةُ تُفيدُ بالدمقرطةِ تناسُباً مع إشراكِهم المجتمعَ في الإدارة. بالمستطاعِ تعريفُ الديمقراطيةِ في هذه الحالِ بكونِها الإدارةَ الذاتيةَ التي يُشارِكُ فيها المجتمع. ونظراً لاعتناءِ واهتمامِ الإداراتِ الذاتيةِ بالمجتعِ دوماً، فإنّ الديمقراطيةَ موجودةٌ في طبيعتِها،بِحُكمِ استحالةِ التفكيرِ بعدمِ مشاركةِ المجتمعِ فيها. ونظراً لكونِ الديمقراطيةِ مصطلحاً مُصَوَّراً بالأغلب لأجلِ المجتمعاتِ الكبرى من قبيلِ الشعوبِ والأمم، فإنّ الإداراتِ الذاتيةَ تشيرُ إلى قُدُراتٍ وكفاءاتٍ مستمرّةٍ ومتواصلةٍ تنتشرُ من أصغرِ المجتمعاتِ الكلانيةِ إلى أوسعِ المجتمعاتِ القومية. يأتي عجزُ علمِ الاجتماعِ عن تحليلِ التشوشِ والتحريفِ الكامن بين السلطةِ والإدارة، في مقدمةِ الأزماتِ أو الإشكالياتِ الأهمِّ التي عانى منها. وهذا ما أبقى بدورِه على جميعِ التحليلاتِ البنيويةِ والعقليةِ والمواقفِ التاريخيةِ تتخبطُ في معمعانِ الفوضى، مُطيلاً بذلك من عُمرِ الأزمة. والنتيجةُ هي ابتلاعُ السلطةِ لكلِّ المجتمعِ والبيئة، وإفراغُها الديمقراطيةَ من جوهرِها مُسقِطةً إياها في حالةِ قِشرةٍ جوفاء، واختزالُ ذاتِها إلى شكليةٍ متكررةٍ من دون جدوى. لذا، لن يَكُونَ تخطي الأزمةِ القائمةِ في الحقلِ العلميّ، وبالتالي الأزمةِ الاجتماعيةِ أمراً ممكناً بوصفِها كينونةً بنيويةً وكينونةَ معنى؛ ما لَم يَقُمْ العلمُ السوسيولوجيُّ بتحليلِ مصطلحَي السلطةِ والإدارةِ الديمقراطيةِ بعدَ وضعِهما في مِحورِ اهتماماتِه، وما لَم يَقُمْ ارتباطاً بذلك بتعميمِ الحلَّ على التاريخِ والعلومِ الأخرى.