تحقيق/ فيروشاه أحمد –
لم تكن الثقافة المجتمعية في يومٍ ما حكراً أو ملكاً لأحد، وبخاصة في الفترة التي عاشت فيها المجموعات والأقوام البشرية في ظل ثقافة الثورة الزراعية حتى نهايات تل حلف في الألف الرابع قبل الميلاد، وفي الوقت ذاته كانت تلك الثقافة بمثابة ذهنية مشتركة لكل تجمُّع أو قوم أو أثنوس.
في بداية العهد البطريكي (تسيد سلطة الذكورية) همشت تلك الذهنية المجتمعية المشتركة وخلق الرجل ثقافة اجتماعية فردية، لقد اختار الرجل مفاهيم تلك الثقافة بما يتناسب ووضعه في أعلى الهرم السياسي والاجتماعي، وحاول وبكل سلطة وهيمنة أن يرسم حول نفسه أجساداً يمتهنون تلك الثقافة بسياط من القوة والعبودية.
هذه الفترة الانتقالية من الذهنية المجتمعية إلى الثقافة الاجتماعية الفردية التي تخدم غرائز وأهواء الرجل، ما زالت تسير في المنحى نفسه، بل أضاف عليها قوانيناً ودساتير وأخلاقيات محددة كي يحظى بموافقة المجتمع ومؤسساته، من جانب آخر؛ يعمل من يؤمن بالثقافة الذهنية المجتمعية على إحيائها وتفعيلها كلما سنحت الفرصة لذلك، كي تعود المجتمعات البشرية إلى مبدأ العيش المشترك كلاً وفق ثقافته لكن بذهنية مجتمعية تناسب الكل.
تعاريف متعددة
الذهنية المجتمعية: هي منظومة ثقافية مجتمعية من شأنها تنظيم المجتمع بذهنية مجتمعية، يجتمع عليها كل الأفراد والجماعات وتتفاعل وتندمج كعضو واحد، وتتوارث الأجيال هذه الذهنية، بشكل طوعي وتتفاعل فيما بينها وكأنهم أسرة واحدة، لأن الطبيعة البشرية في المجتمعات المشاعية تميزت بثقافة ذهنية مجتمعية رافقت الإنسان آلاف السنين، مما جعل الفرد يقوم بواجبه بمسؤولية أخلاقية تجاه الإنسان والطبيعة.
الثقافة الاجتماعية: تلونت هذه الثقافة في العصر العبودي بأسماء ومسميات كثيرة؛ لأن المجتمع انقسم على نفسه من خلال السلطة، ومن هذه الثقافات الجديدة والطارئة الثقافة الدينية (العقيدة) والثقافة الانتقادية (الطبقية) والمناطقية واللغوية والقومية والعرقية والقبلية وغيرها الكثير، وهكذا انقسمت الذهنية المجتمعية إلى عشرات الثقافات الاجتماعية، كلها تدعو إلى الفردانية، والفردانية هي دعوة واضحة إلى السلطة والهيمنة.
تاريخياً الفرق بينهما
عندما انكمش وانحسر الجليد في أعالي ميزوبوتاميا وبقية المنطقة في نهايات الألف العشرين قبل الميلاد، خرج الإنسان من الكهوف والمغاور يبحث عن مأكلٍ ومشربٍ جديدين مختلفين عما كان يأكله ويشربه في تلك الكهوف، فالتقط الثمار واصطاد بعض الحيوانات وشرب من ماء زلال، لم يخرج ذاك الفرد لوحده، بل كل المجموعة كانت تخرج للطبيعة تلملم ما يحتاجونه، هذه كانت بداية تكون الثقافة المجتمعية التي أصبحت فيما بعد ذهنية مجتمعية راسخة في سلوك كل فرد دون إكراه، بل بات الكل يمارس تلك الثقافة كحالة أخلاقية لا كواجب، ولا كقانون أو نظام.
ما يلاحظ بين الثقافتين نسبة الأخلاق في سلوك كل فرد، ففي الذهنية المجتمعية لا قوانين تحدد سلوكيات الفرد، كونه يتمتع بأخلاق مجتمعية إيكولوجية لا تسمح له بالتفرد أو السلطة، بعكس الفرد الذي يمارس حياته وفق الثقافة الاجتماعية التي تسمح له أن يخترق كلَّ القوانين والأخلاقيات كي يتسلق أعلى الهرم السياسي، وليس غريباً أن يعتمد وسائل غير أخلاقية كي يحقق ما يربو إليه (الغاية تبرر الوسيلة)، ومن هذه الوسائل ربما يتبع أساليب الحروب، أو تأجيج الصراعات بين الناس، أو يلجأ إلى تجويع المجتمع.
بذات السياق أن نجد مالتوس ومن خلال ثقافة الفردانية الاجتماعية كيف يدعو الأنظمة المهيمنة على إشعال نار الحروب في المجتمعات الفقيرة، لأنهم يشكلون أزمة في الحياة، وبقدر ما يتناقص عدد الفقراء والذين لا يجدون لأنفسهم كسرة خبز أو من يعيلهم ما عليهم إلا مغادرة الزمن (الرجل الذي ليس له من يعيله والذي لا يستطيع أن يجد عملاً في المجتمع سوف يجد أن ليس له نصيبٌ من الغذاء، فهو عضو زائد في وليمة الطبيعة فإنها تأمره بمغادرة الزمن)، بهذه الثقافة يتمتع الأغنياء بسعادة أفضل، حسب زعم الكاتب (مالتوس) الذي وضع فضاءات من التمييز بين طبقتين مختلفتين، بالصياغة نفسها؛ نجد الدعوة مختلفة في فلسفة الأمة الديمقراطية، لأنَّها لا تدعو للقتل ولا إلى الإلغاء، بل إلى الاهتمام بالإنسان والطبيعة على حد سواء، كون مفاهيم هذه الأمة لا تعترف بكل الصفات الشخصية من شكله ومستوى معيشته وانتمائه، بل تؤكد على هويته الأخلاقية وذهنيته المجتمعية ومدى استعداده لحب الناس والطبيعة.
الإشكالية المتجددة
بدأ التحول في الثقافة المجتمعية مع نهاية تل حلف في الألف الرابع قبل الميلاد، وصعود ثقافة الفرد (الملك المقنع) وكيف قسم المجتمع إلى شرائح وطبقات، ومارس كل وسائل العنف والهيمنة من خلال الغزو والحروب (نارام سن ـ أُنموذجاً) وبناء هيكلية بنيوية سياسية مركزية، هذه الإحداثيات شكلت شرخاً اجتماعياً بلورت عن ثقافة نرجسية تدعو للإبادة، من خلال تقسيمه للمجتمع إلى طبقات أو شرائح ووثب للقمة معتمداً على مراكزه الاقتصادية.
بات هذا التحول كسلسلة متلاحقة باستمرارية السلطة حتى الوقت الراهن، وفي كل مرحلة تاريخية تتجدد هذه الثقافة الاجتماعية بتجدد شكل السلطة (من العبودية إلى الإقطاعية) ومنهما إلى بقية مراحل تطور السلطة، لم تتهاون الحلقات التاريخية السلطوية، بل أصبحت متينة من خلال الأيديولوجيات التي تتساوى مع الاقتصاد في تحجيم الثقافة المجتمعية وتشجيع ثقافة اجتماعية للحيلولة من الانتقال إلى ذهنية مجتمعية تتشابه فيها كل الناس من حيث العدل والمواطنة.
كون هذه المراكز الصناعية هي مراكز المدنية (أورـ رهاـ أمستردام ـ لندن) باتت تعيش الفوضى التي أسقطت كل أشكال الزيف والخداع الذي مارسته من بناء هرم ثقافي وسياسي (زقورات)، والتي أعلنت عن ولادة ثقافات مجتمعية في المراحل التالية (فيدرالية ميديا)، هذا وقد أكدت تقاليد الطبيعة على أنَّ (كلَّ شيءٍ ينمو مجدداً على جذره ويلوح أن الديمقراطية أيضاً ستحقق ولادتها كاملة وبنجاح على جذورها المخفية في الثورة النيوليتية).
لماذا الذهنية بدل الثقافة؟