يسودُ الاعتقادُ لدى العامةِ وحتى لدى النخبِ المثقفةِ أنّ عواملَ تعطيلِ حلّ الأزمة السوريّة ترتبط بالإراداتِ الخارجيّةِ وتناقضِ مصالحها، وهذا صحيحٌ لدرجةٍ كبيرةٍ، ولكنه ليس تبريراً كافياً لاستمرار الأزمة، إذ يُهملُ العاملُ الذاتيّ، ووجودُ خطأ فكريّ جسيمٌ لدى شعوبِ المنطقةِ ترسّخ عبر الزمن، لينتجُ المشكلاتِ ويعقّدُ مساراتِ الحلِ.
الملكيّة القوميّة للأرضِ
تصبحُ المشكلةُ أعقد بالخلطِ بين مفهومي الوطنِ والدولةِ، على أنّ لهما المعنى نفسه، فالوطنُ ليس مصطلحاً سياسيّاً بل جغرافيا الحياةِ الطبيعيّةِ، تقوم العلاقات فيه على أساس وجدانيّ أخلاقيّ، فيما الدولةُ كيانٌ سياديّ تحددُ القوانينُ العلاقاتِ بين المؤسساتِ لتقدّمَ الخدمةَ للمواطنين. وإذا كان مفهومُ الوطنِ هو الانتماءُ الفطريّ، فإنّ الدولةَ انتقلت من دورها الوظيفي الخدميّ لتطالبَ المواطنين بالولاء لها وتمارس السلطة عليهم. (أي انقلاب الدولة على دورها)، وعندما تكون الدولة قوميّة، فإنّ كلّ الخدمات المتعلقة بالتعليم والثقافة والإعلام ستكونُ لصالحِ لون واحدٍ، وكذلك التقييم الوطنيّ والمسائل المتعلقة بالقيود والملكيات.
القوميّة والدين مسائل تخصّ الأفرادَ وليس الأرضَ، واعتبارُ الأرض عربيّة أو تركيّة مثلاً يعني تعريبَ أو تتريكَ كلّ الشعوبِ التي تعيشُ عليها، وهذا عاملٌ منتجٌ للمشكلةِ بصورةٍ طبيعيّةٍ ويعطّل الحلّ بنفس الوقت. والأمرُ هو نفسه بتوصيفِ الأرض دينياً، ولعلّ التملكَ القوميّ كان دينيّ المنشأ، ويعودُ إلى حقبةِ يُتعارف عليها بالفتح الإسلاميّ وأراضي الخلافةِ الإسلاميّة.
النظامُ والمعارضة يختلفان في قضايا كثيرةٍ ولكنهما متفقان إلى حدٍّ ما في البعدِ القوميّ، ورفضِ أيّ حلٍّ يقرُّ بالتعدديّةِ، وكنتيجةٍ لاعتمادِ القوميّةِ معياراً للدولةِ سيُنظرُ إلى كلِّ القومياتِ الأقلِ عدداً على أنّها انفصاليّةٌ، وبهذا فالانفصاليّةُ تعبيرٌ مباشرٌ عن اجتزاءِ الحالةِ الوطنيّةِ والوصايةِ وتجاهلِ أسبابِ الأزمةِ.
عندما يتصارع طرفان من قوميّة واحدة في البلد الواحد، فلن يكون للصراع هدفٌ إلا السلطة إمّا للوصول إليها أو المحافظة عليها، إذ تكون لكلِّ طرفٍ أجندةٌ سياسيّةٌ وعلاقاتٌ مختلفةٌ، ويُستخدم الدينُ عاملاً محرضاً للاستمرار، وبذلك فيما تنقلبُ نتائجُ الصراعِ لتهددَ وجوديّاً القومياتِ الأقل عدداً. وهذا تماماً ما يحصل مع الكرد في سوريا، وعملوا على النأي عن الدخول في الصراعِ المسلحِ وباتوا متهمين من قبل طرفي الصراعِ.
أنقرة استغلت طائفيّةَ الصراعِ وأجّجته، واستثمرتِ التوجّهَ الدينيّ الطائفيّ لتشنَّ الحربَ على الكردِ، وتحتلَ مناطقَ لهم، وتسعى للتغيير الديمغرافيّ، وتخطط لإنهاء وجودِ الكردِ على الشريطِ الحدوديّ، وتدلُّ إجراءاتُها في المناطق التي احتلتها أنّها بصددِ ضمّها نهائيّاً.
الصورةُ الحاليةُ للصراع
تمّت أخونةُ المعارضة لتصبح أنقرة قبلتها، وطغت عليها النزعةُ الجهاديّةُ وسقطت في الارتزاقِ، وباتت أداة الاحتلالَ التركيّ، ولا مشكلة لديها بالانضمام إلى تركيا إذا لم يتحقق هدفُ إسقاطِ النظام.
النظام مصرٌّ على إعادةِ البلدِ إلى مرحلة ما قبل آذار ٢٠١١ مهما كلفَ ذلك، ويعوّل على موسكو لإخراجِ القواتِ التركيّةِ واستعادةِ السيطرة على المناطق المحتلة، فيما الوجودُ الإيرانيّ بات محرجاً بتعرضه للقصفِ الإسرائيليّ.
استقطاب موسكو لتركيا غيّر معادلاتِ الميدانِ وكان على حسابِ الكردِ، وباتت المسألةُ بالنسبةِ لهم وجوديّة، فالخطةُ الروسيّة اقتضت تجميعَ كلّ العناصرِ المسلّحة في الشمال لتستثمرها أنقرة باحتلال مناطقهم وتنفيذ الاستيطان والتغيير الديمغرافيّ فيها، فتشهدَ أسوأ فصولِ الأزمةِ السوريّةِ، وتعملُ أنقرة على نسفِ الإنجازاتِ التي تحققت في إطار الحرب على مرتزقة داعش، وضربِ العلاقات المجتمعيّة عبر إذكاء الفتنة الطائفيّة.
يرى الكردُ أنَّ التعدديّة هي المسارُ الذي يضمنُ حقوقهم الوجوديّة والثقافيّة، ولكنهم قوبلوا بالاتهام بالانفصال والكفر في انسجامٍ مع الموروثِ السائدِ بإسباغ التوصيفِ القوميّ والدينيّ على الأرضِ.
المعارضةُ التي ارتمت في الحضنِ التركيّ هي أداةُ أنقرة لاحتلالِ مناطق الكردِ وبلداتٍ في شمال سوريا، أما جلساتُ الحوارِ بين الإدارة الذاتيّة ودمشق فقد توقفت، وكانت مقتصرةً على الأطرِ الأمنيّة دون السياسيّة، وليصعّدَ الخطابُ الإعلاميّ وتُوجّه الاتهاماتِ كمؤشرٍ لإغلاقِ قناة الحوار تماماً…
الحلُّ يكمنُ بالعملِ على إنجازِ نموذجِ الدولةِ الوطنيّة، وتأكيدُ قيمِ المواطنة على أنّها قاسم مشترك وعاملٌ عابرٌ لكلّ الانتماءات التفصيليّة القوميّة والدينيّة، وتأكيد مصادر الثقافة الوطنيّة، وتأطير ذلك دستوريّاً، وهذا يحتاجُ مبادراتٍ حقيقيّةً من الجميعِ، لأنّ أيّ صيغة حلّ خارجيّ ستنطوي على إملاء، ولن تستوعب حقائق الواقع والتاريخ. وإلا سيبقى ليبقى السؤال معلقاً: ماذا ينتظرُ السوريين؟