سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

الأزمة السورية من منظورها الجديد

تشهد الأزمة السورية في الآونة الأخيرة تغيرات جذرية غير مسبوقة؛ ما يكشف أنها أمام تحديات، وتغيرات أكثر بعد دخولها العقد الثاني، فإعادة حكومة دمشق إلى الجامعة العربية، وما تبعها من تحركات عربية لحل الأزمة السورية بالتعاون مع الغرب الرافض للتطبيع مع الحكومة، إضافة إلى تقارب أنقرة مع دمشق، والحديث عن ضم حلب لتركيا وفق الميثاق الملي، والحديث عن محاولات تشكيل جسم معارض جديد، جميع هذه المؤشرات توحي أن سوريا تدخل إلى مرحلة جديدة خاصة بعد بقاء أردوغان في السلطة، التي قد تمتد إلى 2028 والتوقع بأطماع توسعية جديدة.
فيما يخص هذه المحاور أعد مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية ملفاً عاماً يتناول تفاصيل مهمة بخصوص المرحلة الجديدة، التي تشهدها سوريا في العام الجديد من الأزمة، مؤكدة بأن المتغيّرات ونتائجها مرتبطة بالتحرّكات التركية والعربية ومصالح روسيا والولايات المتحدة المرتبطتين بالأزمة الأوكرانية، أو بالصراع الغربي الروسي في أوكرانيا؛ فقد بات الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا إلى جانب الأزمة السورية مصيريًا لكلا الطرفين المتصارعين، إما لإثبات وجودها في النظام العالمي كروسيا، أو في الحفاظ على النظام المهيمن كالولايات المتحدة والدول الغربية، وكون الأزمة الأوكرانية تتّجه نحو أزمة طويلة الأمد، وبالتالي تحتاج إلى إمكانات كبيرة، يعمل كلّ من طرفَي الصراع على جذب الدول إلى محورها؛ فالدول الخليجية ذات الإمكانات المالية الضخمة ضرورية للولايات المتحدة؛ لتخفيف الضغط على الدول الأوروبية، التي تقدّم الدعم لكييف، بالإضافة إلى الموقع الجيوسياسي لتركيا ودورها في إحداث تغيير في مجريات الحرب لصالح أحد الطرفين المتصارعَين.
التحرّكات التركية
ولفت المركز إلى أن أردوغان، الذي يدّعي الحيادية في موقفه حيال الأزمة الأوكرانية، لا يلقى الرضى والقبول من قبل الغرب والولايات المتحدة، وباعتباره حليفًا مهمّاً في حلف الناتو، الذي يطالبه باتخاذ خطوات جدية تتعلّق بفرض عقوبات على موسكو وانضمام السويد للحلف، لكن بالمقابل، يطالب أردوغان بمضاعفة حصّته من مكاسب الغرب في الشرق الأوسط، ومنها تنفيذ الميثاق الملّي بضم حلب، والشريط الحدودي إلى تركيا، وهو ما بدا واضحاً في تصريحات كبار المسؤولين الأتراك حول حلب عقب استيلاء أردوغان على كرسي الرئاسة مرة أخرى، ورغبة أردوغان في الحصول على الدعم الغربي في ضم حلب؛ فالدعم التركي لكييف عشية الانتخابات الرئاسية التركية له مؤشّرات حول وجود تفاهمات غربية تركية بتحمّل الأخيرة مسؤولياتها كحليف في الناتو، بما يخصّ الأزمة الأوكرانية، مقابل فوز أردوغان في الانتخابات، وعلى الرغم من استغلال تركيا للصراع الغربي الروسي؛ لتحقيق مكاسب جديدة في سوريا، لكن أي تحرّك تركي جديد، لا بدّ من وجود ضوء أخضر من الولايات المتحدة، وروسيا إلى جانب إيران، بما يخصّ حلب؛ حتى تكون قادرة على شنّ عدوان جديد، وهو أمر مستبعد، أو أن يكون هناك دعم غربي قوي لها يمكّنها، وعن طرق المجموعات التابعة لها من المرتزقة، والإرهاب من مجابهة روسيا، وحكومة دمشق، وطهران، وهو أمر أيضاً غير قابل للتطبيق؛ فالدول الغربية لا تهدف إلى توسيع جبهة الصراع مع روسيا، لكن ليس من المستبعَد أن تقوم الدول الغربية بدفع تركيا لشنّ عدوان على مناطق النفوذ الروسي، والإيراني واحتلال المزيد من الأراضي، “ضم حلب”، وذلك بهدف ضرب التقارب التركي الروسي وإعادة الصراع الروسي التركي “العثماني” القديم إلى الواجهة.
 ورأى المركز، بأن رغبة أردوغان في التطبيع مع الأسد، وجرّه إلى محاربة الإدارة الذاتية، تأتي لعجزه عن الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة، وروسيا إلى جانب إيران – بما يخص ضمّ حلب – لشن عدوان جديد على مناطق الإدارة الذاتية، واحتلال مناطق جديدة. إلّا أنّ تمسك الأسد بـ “الانسحاب التركي من الشمال السوري” كشرط أساسي مقابل التطبيع، ولإجبار الأسد للتطبيع معه، بدأ أردوغان باتباع سياسة التهديد للضغط على روسيا لإجبار الأسد على التطبيع.
وكشف المركز عبر ملفه نوايا أردوغان من أفعاله، فمن وجهة نظره، فإنّ قيام أردوغان بتسليم ماهر الدغيم لحكومة دمشق ليس لأنّه يندرج ضمن التفاهمات الرباعية، بل إنّ تسليم الدغيم إلى الحكومة يأتي إمّا لرغبة الأخير في الهروب من تركيا، والنجاة بنفسه من المصير المجهول، الذي ينتظره، وينتظر أغلب أعضاء ما تسمى بالمعارضة وقادة المجموعات، أو لرغبة الدغيم في الانضمام لجسم سياسي جديد، وهو ما دفع تركيا إلى سحب الجنسية التركية منه واعتقاله في مطار أتاتورك، وتسليمه لقطر التي سلّمته بدورها لحكومة دمشق. فانهيار الائتلاف يعني انهيار تركيا، وفقدان دورها في الأزمة السورية، وبالتالي؛ فإنّ أي توجّه أو تحرّك منافٍ للتوجّهات والتحرّكات التركية من قبل أعضاء ما تسمى بالمعارضة أو قادة المجموعات المرتزقة؛ سيكون مصيره مشابهًا لمصير الدغيم؛ أي أنّ تسليمه كان بمثابة “رسالة تهديد لأعضاء الائتلاف السوري وقادة المجموعات المرتزقة”. كما عملت تركيا على تسليم 12 ضابطاً في صفوف ما تسمى بالمعارضة للحكومة، فجرت عملية التسليم عند معبر كسب الحدودي.
وقد يكون الهدف الرئيسي لأردوغان من وراء ذلك هو قطع الطريق أمام تطبيق مفهوم الإدارة الذاتية، ومشروع الأمّة الديمقراطية في باقي المناطق السورية، والذي بدأ يلقى رواجاً في الداخل السوري، والخارج كحل لإنهاء الأزمة السورية، ولمنع انتقال هذه التجربة إلى الشمال السوري المحتل، وإلى الجنوب السوري، بدأ أردوغان بتسليم شخصيات سياسية وعسكرية “معارضة” للنظام السوري كمرحلة مبدئية– حسن نيّة – ضمن تفاهمات اللجنة الرباعية، والتي قد تنتهي بتسليم كامل المناطق، التي تسيطر عليها ما تسمى بالمعارضة “الائتلاف السوري” لحكومة دمشق تحت بند المصالحة، لكن بشرط، حفاظ تركيا على قواعدها ونقاطها العسكرية في المناطق المحتلة “بنود جديدة ضمن اتفاقية أضنة”، والعمل على إخراج القوات الأمريكية بغية القضاء على الإدارة الذاتية، وإجهاض أو وأد مشروع الأمّة الديمقراطية في سوريا.
وفيما يتعلق بملف ما يُمسى بالمعارضة علق المركز؛ إن خشية ما تُسمّى بالمعارضة “الائتلاف” من تحوّلهم إلى كبش فداء، ومحاولات بعض الشخصيات، وبعض الأطراف الدولية لتشكيل جسم معارض جديد بما يتلاءم والمتغيّرات على الساحة السورية، جعلت ما تسمى بالمعارضة في حالة قلق حول مصيرها، وخشيتها من قيام أردوغان بتسليمها لحكومة دمشق، وهو ما أدّى ببعض المعارضين إلى الهروب من تركيا، أو إيجاد مقعد لهم في التشكيلات الجديدة – المُراد تشكيلها – بعد فقدان الائتلاف دعمه الدولي، وقطع الدعم عنه، وبدء أردوغان باستغلاله لتحقيق أهدافه.
التحرّكات العربية
قبل التطبيع العربي مع  دمشق، كانت هناك محاولات روسية ولاتزال مستمرّة لإجراء عملية التصالح بين أنقرة ودمشق، والتي انبثق عنها تشكيل اللجنة الرباعية، “روسيا، وتركيا، وإيران، وسوريا” للوصول إلى تفاهمات تؤدّي إلى التطبيع، هذه المحاولات، وبرعاية روسية لن تخدم المصالح الغربية، ولمواجهة هذه التحرّكات أقدمت الولايات المتحدة على دفع الدول العربية للانفتاح على حكومة دمشق فقط من الناحية السياسية، ومعاقبة أيّة دولة تقدِم على دعم الحكومة اقتصادياً؛ كونها ستخدم روسيا في الدرجة الأولى، هذا الدفع قد يكون لمنح حكومة دمشق مجالاً للتنفس لمنعها من الانجرار نحو الإملاءات الروسية، والتركية، وحتى الإيرانية، كما أنّ هناك رغبة عربية لحلّ الأزمة السورية من بوّابة الجامعة العربية، وإيجاد تسوية عربية – عربية لحلّ الأزمة السورية وفق القرار 2254.
كما أنّ رفض منصّة القاهرة لحضور اجتماعات هيئة التفاوض في جنيف، قد يكون مؤشّرًا على وجود تحرّكات عربية مغايرة للتوجّهات الروسية، لأن الأخيرة كان لها الدور الكبير في فتح المجال للتدخّلات الإقليمية التركية، والإيرانية في الأزمة السورية، علماً أنّ منصّة موسكو انضمت لهذه الاجتماعات بعد انقطاع استمرّ لأكثر من ثلاث سنوات ونصف، واسـتعادت عضويـة ممثّليها فـي كلّ مـن الهيئـة واللجنـة الدسـتورية، وليس من المُستبعَد أن يكون حضورها بضغط من روسيا؛ فالدول العربية بحاجة إلى إنهاء الأزمة السورية عربياً، ووضع حدّ للتدخّلات الإقليمية في سوريا، والتي لها انعكاسات على الأمن القومي العربي، لكن لا بدّ من وجود دعم غربي لها، فهي غير قادرة على حلّ الأزمة السورية بعيداً عن الغرب، وحضور زيلينسكي للقمة العربية، التي انعقدت في الرياض مؤشر على حاجة الطرفين إلى بعضهما في أزماتهما “حاجة الغرب للقوة المالية الخليجية، وحاجة الدول العربية للغرب لحل الأزمة السورية”؛ لذا قد تطلب المملكة العربية من الغرب لعب دور أكبر لحلّ الأزمة السورية وفق الرؤية العربية والقرار 2254، هكذا حلل المركز ضمن ملفه التحركات العربية في المنطقة.
التحرّكات الروسية
وكانت التحركات الروسية أيضاً محوراً ضمن الملف نفسه، حيث ذكر المركز ضمنه، بأنّ روسيا اليوم، ليست روسيا قبل 2022 فالتدخّل الروسي العسكري في أوكرانيا، وصراعها مع الغرب أثّر على الدور الروسي في سوريا، وسمح لإيران بالتوغّل أكثر في سوريا، بعد أن كانت هناك خطوط حمراء تضعها روسيا أمام إيران، تتعلق بتحرّكاتها العسكرية في الداخل السوري، ومسألة التسليح والقواعد العسكرية، والتي تشكل جميعها تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي، كما أنّ روسيا وفي ظلّ صراعها مع الغرب بدأت بالعمل على فتح باب التطويع لدعم قواتها في أوكرانيا.
فروسيا ذات الإمكانات الاقتصادية الضعيفة “مقارنة بالدول الغربية”، لا يمكن لها التركيز على جبهتين، أو أزمتين في الوقت نفسه؛ فهي تعدُّ الأزمة الأوكرانية أَولَى من الأزمة السورية في ظلّ صراعها المباشر مع الغرب، ولكن لا يعني ذلك إهمال سوريا بل تحاول تخفيف الضغوط عليها من خلال العمل على إجراء مصالحة بين تركيا، والنظام نظرًا لحاجتها إلى تركيا في هذه المرحلة، وهو ما يعني مستقبلاً قيام المجموعات المرتزقة بإجراء مصالحة مع حكومة دمشق، فروسيا لا تضغط على تركيا لسحب جيشها من الشمال السوري، بل تسعى إلى إجراء مصالحة حتى، وإن بقي جيش الاحتلال التركي متمركزاً في الشمال السوري، كما تسعى للعمل معها إلى جانب إيران ودمشق “تحت مظلة اللجنة الرباعية” لدفع الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا عن طريق خلق الفتن في مناطق الإدارة الذاتية، واستهداف قادة قوات سوريا الديمقراطية، والقواعد العسكرية الأمريكية، سواء عن طريق إيران أو المجموعات المرتزقة، ومن ضمنها داعش الموالية لدولة الاحتلال التركي.
ومع القواسم المشتركة التي تجمع اللجنة الرباعية في إخراج الولايات المتحدة من سوريا، والقضاء على الإدارة الذاتية، ووأد مشروع الأمة الديمقراطية في المنطقة، تعمل روسيا على استغلالها للحفاظ على تركيا، فهدفها هو ربط تركيا بفلكها أكثر، ومنعها من الانجرار إلى الحاضنة الغربية، كما أنّ إجراء مصالحة بين المجموعات من المرتزقة، وحكومة دمشق قد تنتهي بضمّهم إلى الفيلق الخامس، أو يتم تشكيل فيلق جديد يخدم روسيا، خاصة أنّ عناصر هذه المجموعات من المرتزقة، وبإمكان روسيا الاستفادة منهم في المستقبل  من خلال إرسالهم إلى أوكرانيا في حال نجحت المصالحة.
واستخلص مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية رسالته بالتركيز على أن الأزمة السورية، لم تعد كما هي في السابق، بل دخلت مرحلة جديدة بدأت بظهور تغيّرات جذرية، وعودة الدور العربي إلى الواجهة، ولكن بشكله الجديد، وظهور أهداف مشتركة في ظلّ أزمة دولية تؤثر على الأزمة السورية مستقبلاً؛ فروسيا ستحاول وبالتعاون مع إيران، أن تنسّق أكثر مع تركيا؛ بغية ضمان عدم عودتها إلى الحاضنة الغربية من جهة، ومن جهة أخرى لإضعاف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، سواء بمنح الضوء الأخضر لتركيا لشن عدوانها في مناطق محدودة “كوباني” أو إجراء مصالحة بين ما تسمَّى بالمعارضة، وحكومة دمشق، وعلى حساب شعوب المنطقة لوأد مشروع الأمة الديمقراطية، ومنع انتقاله إلى المناطق التي احتلتها تركيا ومجموعاتها المرتزقة، أمّا الولايات المتحدة فربّما تعمل على زيادة وجودها العسكري في شمال وشرق سوريا وفي التنف، ومع محاولات “التنسيق مع قسد” ربّما تعمل على إحداث تغييرات، بما يتلاءم مع التحرّكات الروسية والتركية، ولا يمكن استبعاد عودة المواجهات وبقوة في الجنوب، وإنشاء إدارات ذاتية فيها وبدعم من الدول العربية، وقد يتم زيادة الضغط على النظام السوري لتقديم تنازلات بما يتوافق والقرار الأممي 2254 كالبدء بمحاكمة بشار الأسد أمام المحاكم الدولية؛ بسبب الأزمة السورية.
فسوريا مقبلة إمّا نحو مزيد من التدهور السياسي والعسكري والاقتصادي؛ بسبب مخرجات اللجنة الرباعية “كونها تعمل وفق مصالحها لا مصلحة الشعب السوري”، أو نحو إنشاء إدارات ذاتية، وبدعم غربي عربي، وبالأخص في الجنوب، كون الشمال السوري محتلا، وتنظيماته السياسية والعسكرية، أدوات بيد دولة الاحتلال التركي؛ لذا قد تكون كلمة الفصل في الشمال بيد شعوبها، إمّا القبول بالمصالحة مع دمشق، وانتظار مصيرها المجهول، أو القيام بانتفاضة شعبية ضدّ ما تسمى بالمعارضة ومجموعاتها المرتزقة التي تسيطر على المنطقة، أمّا الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، فهي أمام تحدّيات كبيرة، تحدّيات سياسية واقتصادية، وعسكرية منبثقة من اللجنة الرباعية، التي لن تتوانى في استهداف المنطقة لتحقيق مصالحها.
مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية