إذا ما أَلقَينا نظرةً إلى حداثةِ القرونِ الأربعةِ الأخيرة، سنَجِدُ أنّ ما تَحَقَّقَ هو التراكُمُ الأعظميُّ لرأسِ المالِ والتكاثُرُ الأقصى للسلطة. أو بالأحرى، إنّه التكديسُ التراكُمِيُّ المُتداخِلُ لِكِلَيهما. أما الأمرُ الذي سيُبَيَّنُ على صعيدِ الأخلاق، فليس شَلَلَ فاعليّتِها، بل انتزاعُها من يَدِ المجتمع. أي أنّ الأخلاقَ انتُزِعَت من المجتمعِ الذي ستُطَبَّقُ في بُنيتِه. بالتالي، فما يُقالُ بكثرة من سَردٍ على شاكلةِ احتياجِ المجتمعِ الصائرِ معقّداً إلى القانونِ بسبب استحالةِ إدارته بالأخلاق، إنّما هو رياءٌ فظيعٌ بقدرِ ما هو حُكمٌ لاأخلاقيّ. أي، لا يمكن الحديثَ بتاتاً عن وضعِ عدمِ كفايةِ الأخلاق، أو عدم قدرتِها على الفاعليّةِ بِحُكمِ تَعَقُّدِ المجتمع. هنا أيضاً يتمّ تَفعيلُ قاعدةٍ بسيطةٍ من الهيمنةِ الأيديولوجيّةِ الليبراليّة: قاعدةُ الإنهاكِ الأعلى عن طريقِ الدعايةِ بغرضِ شلِّ تأثيرِ المنافِسِ النِّدّ. دورُ هيمنةِ الليبراليّةِ الأيديولوجيّةِ جليٌّ بكلِّ سطوعٍ في تَشكيلِ الموقفِ المعاصِرِ بشأنِ الأخلاق. أما القانونُ الذي حَلَّ مَحَلَّه، فمَن الذي لا يَعلَم أنّه عاجزٌ حقّاً عن الإدارةِ والحُكم، وأنّه مليءٌ بالقواعدِ التي لا يَسَعُها العقلُ ولا الضمير؟ لَم يَكُ عبثاً قولُ المَقولةِ الشعبيّة «ما يَحُلُّ بالذاهِبين إلى المحكمةِ للمرّةِ الأولى لا يَحُلُّ بالدجاجةِ المَطهُوَّة». بقدرِ ما تتواجدُ القواعدُ القانونيّةُ بكثرةٍ في مكانٍ أو مؤسّسةٍ ما، فإنّه دليلٌ على وجودِ احتكارٍ قمعيٍّ واستغلاليٍّ مؤثِّرٍ بالمِثل. والحقائقُ العمليّة، وأَوَّلُ خطوةٍ مَخطُوَّةٍ في كلِّ مؤسّسةٍ راهنة، تُؤَكِّدُ صحّةَ هذا الأمر.
السؤالُ الهامُّ الذي ينبغي طرحَه فيما يتعلّقُ بالموضوعِ هو: أيّهما يَحكُم بشكلٍ أفضل، الأخلاقُ أم القانون؟ بالرغمِ من أنّ سردَنا بمضمونه يُعطي الجوابَ على هذا السؤال، إلا أنّ كَونَ القانونِ حُكماً بالإرغام يُوَضِّحُ الحقيقةَ إلى حدٍّ بعيد. فكما هو معلوم، يُصاغُ تعريفُ القانونِ بأنه «تنفيذُ القواعدِ بإرغامِ الدولة». ولكن، لا تنفيذَ بالإرغامِ في الأخلاق. وبالأصل، أيّةُ قاعدةٍ لا تُستَساغ لا يُمكِن تسميتَها بالقاعدةِ الأخلاقيّة. واضحٌ أنّ الكَفَّةَ التي سيَطغى عليها الفاضلُ سَتَكونُ كفَّةَ الأخلاقِ بكلِّ تأكيد لدى المقارنةِ بين الحُكمِ القانونيِّ المرتكزِ إلى العنفِ والإرغام وبين إدارةِ الأخلاق.
علاقةُ الأخلاقِ مع الدينِ قضيّةٌ هامّةٌ تستوجبُ التحليل. فكيفما أنّه بالإمكانِ عقدَ تَعادُلٍ بين الأخلاقِ والديمقراطيّةِ المباشرة (بالنسبةِ للمجتمعاتِ الخارجةِ عن المدنيّةِ والمضادةِ لها)، فبالمقدورِ عقدَ تعادُلٍ شبيهٍ فيما بين الدينِ والأخلاقِ أيضاً. ففي الظروفِ التي لَم تَطبَعْ فيها المدنيّةُ الدينَ بطابعِها، يُمكِنُ للأخلاقِ والدينِ والديمقراطيّةِ المباشرةِ أنْ تَعيشَ بشكلٍ متداخل. الأخلاقُ مؤسّسةٌ أَسبَق من الدين. بينما يَبدو أنّ الدينَ معنيٌّ بأبعادِ الأخلاقِ التي تتعلّقُ على الأغلب بالمَحظورات، المُقَدَّسات، السحر، الصعوبة في الفهم، والتفكير والإحساس بعدمِ القدرةِ على التحكّمِ بقوى الطبيعة. فمعرفةُ المجتمعِ وقَبولُه وإدراكُه للطبيعةِ الكامنةِ خارجَ نطاقِ طبيعته، إنّما يُوقِظُ مشاعِرَ الخوفِ والرحمةِ في آنٍ معاً. كما يَلُوحُ أنّ فكرةَ تَجَنُّبِ سيّئاتِ والاستفادةِ من مَحاسِنِ تلك الطبيعةِ وقواها التي يتمّ الإدراكُ أنّ حياةَ المجتمعِ تابعةٌ لها بوثوق، إنّما تُشَكِّلُ مصدرَ التقاليدِ والمؤسّسةِ الدينيّةِ البدائيّةِ الأصليّة.
لا جدالَ في أنّ الدينَ مؤسّسةٌ أَسبَقُ من المدنيّة. وهو يَحتَوي بين طواياه مَحظوراتِ الأخلاقِ والأمورَ التي يجب الامتناعَ عنها، وعناصرَها في الرحمةِ والغفران. لكنّه يصبحُ شريعةً أكثرُ صرامةً مع مرورِ الوقت. بهذا المعنى، فترتيبُ الأخلاقِ ضمن القواعد الصارمةِ والأوامرِ المقدّسةِ يُشَكِّلُ الدين. بالرغمِ من ولادتِه من أحشاءِ الأخلاق، وتَكوينِه كجزءٍ منها في البداية؛ إلا أنّه يتوطَّدُ مع تَغَيُّرِ ظروفِ الزمانِ والمكان، ويُحَوّلُ مؤسّساتِه وقواعدَه إلى قوانين حاسمةٍ يُشتَرَطُ الامتثالُ لها (نظامُ الوصايا العشرِ النموذجيّةِ لدى موسى)، مُعلِناً بذلك استقلالَه وأَولَوِيَّتَه. هذا وبالإمكانِ مقارنةَ القانونِ أيضاً بكونه انطلاقةً مشابهة. فالقواعدُ القانونيّةُ التي كانت بدايةً قسماً من القواعدِ الأخلاقيّة، تتحوَّلُ بالتَّزامُنِ مع التدوُّلِ إلى قوانين تُنَفَّذُ متطلّباتُها عنوةً، مُشَكِّلَةً بذلك القانونَ الذي نَعرِفه. كما شَهِدَ الدينُ اختلافاً آخرَ تماشياً مع تَطَوُّرِ سياقِ المدنيّة، ألا وهو تصييرُه قوّةً إلهيّةً قادرةً على الحكمِ بالعقابِ بشكلٍ شديدٍ بحقِّ المجتمع، وذلك بأبعادِه المتحوِّلَةِ حسبَ مصالحِ قوى الاستغلالِ والسلطة. هكذا، فالمصالحُ الاحتكاريّةُ التي سَيَّرَها القانونُ بِيَدِ الدولة، سعى الدينُ المَطبوعُ بطابعِ المدنيّةِ الجديدةِ إلى تَسييرِها بِيَدِ الإله.