لماذا يُظهر الناس اللطف للآخرين، حتى لأولئك الذين هم من خارج أُسرهم، بينما لا يرجون نفعاً من وراء ذلك؟ فأن يكون المرء كريماً دون أن يُبادَل بالكرم لا يُسهم في دفع محرك التطور الأساسي للبقاء والتكاثر. ولهذا قام عالم الأنثروبولوجيا التطورية ومدير مركز جين غودال للأبحاث في جامعة جنوب كاليفورنيا كريستوفر بويم بمراقبة الرئيسيات لأربعين عاماً، ودرس خلالها ثقافاتٍ بشريةٍ مختلفةٍ لفهم السلوك الاجتماعي والأخلاقي. ويفترض بويم في كتابه الجديد “أصول الأخلاق” أن الأخلاق البشرية نشأت بجانب عمليات الصيد الكبيرة، فعندما تشكّل الصيادون وجامعو الثمار في مجموعاتٍ أصبح البقاء على قيد الحياة مرتكزاُ على مبدأ أساسيٍ واحدٍ، وهو التعاون أو الموت.
يتضمن الإيثار الكرم خارج الأسرة، بمعنى الكرم مع غير الأقارب. لماذا يصعب تفسير الإيثار بمصطلحاتٍ تطورية؟
تمتلك جماعةٌ تقليديةٌ من الصيادين وجامعي الثمار (كتلك التي سادت العالم قبل ١٥ ألف سنة) عدداً قليلاً من الإخوة والأخوات، ولكن كل من سواهم لم يكونوا أقرباء تقريباً، ولكننا نجد أن كل هؤلاء الأفراد غير الأقارب يتشاركون بلا حساب، مما يجعل من هذه الحقيقة مفارقةً وراثيةً. وقد تتوقع أن يتصدر السباق أولئك الجيدون في الغش والذين يأخذون ولا يعطون، وأنه ينبغي أن تكون مورثاتهم في تزايدٍ بينما تقل مورثات الإيثار، ولكننا في الواقع تطورنا لنتشارك على نطاقٍ واسعٍ ضمن جماعات.
ماذا قال تشارلز داروين عن “مفارقة الإيثار” هذه؟
إن حقيقة خوض الشبان للحروب طوعاً والموت من أجل جماعاتهم أوقعت تشارلز داروين في حيرةٍ شديدةٍ، فمن الواضح أن هذا لا يتفق مع فكرته العامة عن الانتخاب الطبيعي، باعتبار أن الأفراد سيبحثون عن مصالحهم الشخصية. فجاء داروين بالانتقاء الجماعي كحلٍ لهذه المفارقة، والذي يقول بأن الجماعة التي تملك أفراداً يتسمّون بالإيثار أكثر من الأخرى ستنافسها وتفوقها عدداً، بينما سيكون لدى الأخرى عددٌ أقلٌّ من الناجين، لذلك سينتشر الإيثار على حساب الأنانية.
تكمُن المشكلة في صعوبة استيعاب الكيفية التي تمكن للانتخاب الجماعي لأن يصبح قوياً بما يكفي ليفوق الانتخاب بين الأفراد، إذ نحتاج إلى الكثير من الحروب والإبادة الجماعية لجعل الانتخاب الجماعي يعمل فعلاً.
وماذا قال داروين عن أصل الضمير الإنساني؟
ما فعله في الواقع أنه أخذ الضمير ووضعه جانباً باعتباره شيئاً خاصاً جداً، وقال “سأرفع يدي، فلا أستطيع القول بكيفية تطوره. ما أستطيع أن أخبرك به هو أن أي مخلوقٍ يُصبح ذكياً ومتعاطفاً كالبشر فسيكون له ضميرٌ بطبيعة الحال”.
بعد قرنٍ ونصف، أين نحن الآن في فهم أصول الأخلاق والضمير الإنساني؟
هناك عددٌ من الكتب حول هذا الموضوع، لكنها كلها براهين تقع خارج التصميم التطوري تقريباً، حيث تنظر ببساطةٍ إلى كيفية عمل الأخلاق وكيف يمكن أن تكون مفيدةً وراثياً للأفراد، وكتابي هو الأول الذي يحاول فعلياً أن ينظر في التاريخ الطبيعي لتطور الأخلاق: متى وكيف حدث التطور الذي أدى بنا لنصبح أخلاقيين؟ وهذا مجالٌ جديدٌ للدراسة بشكلٍ ما.
ماذا عن قاعدة البيانات التي قمت بإنشائها لمساعدتك على استخلاص نتائجك؟
قيل أن جميع البشر في مجتمع الصيادين وجامعي الثمار الذين يعيشون اليوم هُمشوا سياسياً، بحيث لا يمكن مقارنتهم مع بشر ما قبل التاريخ الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار، وأعتقد أن ذلك خاطئٌ تماماً. فلقد علمنا منذ سبعينيات القرن الماضي أن معدل التغير المناخي كان مهولاً في نهاية العصر الجليدي، لذلك حدث الكثير من التهميش قبل ٥٠ ألف سنة مثلما هو الحال اليوم، كما أن بعضها كان سياسياً كذلك، بمعنى أنه عندما يكون هناك اضطرابٌ مناخي سيكون هناك شحٌّ في الموارد، وستتقاتل من أجلها جماعات الصيادين مع بعضهم البعض.
ما قمتُ به هو النظر إلى كل مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار الممكنة التي تمت دراستها، وتخلصت ببساطة من كل أولئك الذين لا يمكن أن يكونوا قد وُجدوا في فترة صيادي العصر الجليدي، منهم الذين روضوا الخيول التي حصلوا عليها من الأسبان، تجار الفرو الهنود الذين بدأوا بشراء البنادق وقتل الحيوانات ذوات الفرو، وبعض الناس الهرميون الذين تطوروا على طول الساحل الشمال الغربي لأمريكا الشمالية.
لقد مررتُ بعنايةٍ فائقةٍ حتى الآن خلال ما يقرب الخمسين من المجتمعات المتبقية، باحثاً عن الاشياء التي يتشاركون فيها غالباً، ثم قدّرت أنماط السلوك المشترك بالفترة التي كان فيها الانسان حديثاً ثقافياً. إن ذلك يأخذنا إلى قبل ٤٥ ألف سنة وربما ١٠٠ ألف سنة، أما إذا عدت إلى أبعد من ذلك فستكون هناك بعض المشاكل، لأنك لن تتعامل مع نفس الأدمغة ولا القدرة الثقافية ذاتها.
متى حصل البشر على ضمير؟
تحديدُ تاريخٍ معيّنٍ هو أمرٌ خطيرٌ جداً، لأنّ كل باحثٍ سيكون لديه ما يقوله بخصوص ذلك، لكن دعني أعطيك بعض الاحتمالات فقط. أولاً، هناك القليل من الشك بخصوص امتلاك البشر للضمير قبل ٤٥ ألف سنة، وهو التاريخ المحافظ الذي يتفق كل علماء الآثار بأنه الوقت الذي أصبحنا فيه حديثين ثقافياً، ويتوازى امتلاك الضمير والأخلاق مع الحداثة الثقافية. أما إذا أردت الآن تخمين المدة التي سبقت ذلك، فالعلامة التي أراها أكثر اقناعاً هي ظهور عمليات الصيد الكبير، الذي جاء قبل ربع مليون سنة.
كيف تطور الضمير لدى البشر؟
بدأ الناس بصيد الحافريات الكبيرة أو الثدييات ذوات الحافر، وكان الصيد جزءاً هامّاً من معيشتهم ويكرسون له وقتهم، ولكن وفق نظريتي فإنه لا يُمكن أن يكون لديك ذكورٌ مسيطرين في حال كان لديك فريقُ صيدٍ يتشارك اللحم بإنصاف ويتغذى الفريق بأكمله. فمن أجل تقسيم الطعام على جماعةٍ هرميةٍ جداً بطبيعتها، يجب القضاء على الهرمية وإقصاءها عن الطريق، أعتقد أن هذه هي العملية.
فرضيتي هي أنهم عندما بدأوا بعمليات الصيد الكبير، توجب عليهم البدء بمعاقبة الذكور المسيطرين وتهدئتهم، ما شكّل ضغطاً انتخابياً من جانب “تحكم بميولك للسيطرة وإلا فستُقتل أو ستتركك المجموعة”، وهو ما يوازي القتل تقريباً، لذلك أصبح التحكم بالنفس ميزةً مهمةً للأفراد الذين كانوا ناجحين تكاثرياً، ويُترجم التحكم بالنفس الى الضمير.
ما هي الفترة الزمنية التي استغرقها ليتطور؟
يقول إدوارد ويلسون أن ظهور ميزةٍ تطوريةٍ جديدةٍ يستغرق ألف جيلٍ، وذلك يعني ٢٥ ألف سنةٍ لدى البشر، ومن المحتمل أن يأخذ شيءٌ معقدٌ مثل الضمير أكثر من ذلك، فهناك بعض الأشياء الأخرى الغامضة مثل احمرار الوجه والشعور بالعار، فليس لدى أحدٍ أيّ فكرةٍ عن كيفية تطورها. ولكني أقول بأخذه بضع آلافٍ من الأجيال، أي ربما ما بين ٢٥ ألف الى ٧٥ ألف سنة.
في أي الطرق تستمر الأخلاق بالتطور؟
سأقوم ببعض التخمينات هنا، إذ يصعب جداً أن نقول شيئاً بثقةٍ عن ذلك. فالتعرف على مضطربي العقل كان سهلاً على الأرجح في عصور ما قبل التاريخ، وتم التعامل معهم كما كان لابد أن يُعاملوا وقتها، أي بقتلهم. بينما يبدو اليوم أن الكثير من مضطربي العقل يملكون الحرية ويُمكنهم التكاثر في مجتمعٍ كبيرٍ ومجهول، وإننا قد نحتاج لأخذ المزيد من الخطوات الأخلاقية على مستوى الثقافة لنتعامل مع العدد المتزايد لمضطربي العقل في مجتمعاتنا، ولكن ربما يكون ذلك على مدى آلاف السنوات.
تتطور الأخلاق على المستوى الثقافي بالتأكيد، فنجد الإعلام الأمريكي على سبيل المثال قد أصبح في السنة الماضية مهتماً جداً بالتنمّر بشكلٍ مفاجئ، والمسؤولون في المدارس أيضاً. وتركزت الرقابة الاجتماعية الآن بشكلٍ أكثر من أي وقتٍ سبق على التنمّر، ولقد كان ذلك موضوعاً رئيسياً لدى الصيادين وجامعي الثمار، لذلك يمكن القول بأن تطور أخلاقنا على المستوى الثقافي عاد فجأةً إلى موضوعٍ قديمٍ.