No Result
View All Result
المشاهدات 3
تحقيق/ فيروشاه أحمد –
لازمت الرياضة مسيرة الإنسان منذ أن أصبح مستقيماً قبل أكثر من 150ألف سنة، يمشي، يهرول، يجري، يركض، يسبق الزمن كي يحافظ على بقائه، وأصبحت هذه الأنواع من الرياضات فيما بعد سباقات رسمية بين الأفراد، في مرحلة متقدمة من حياته تعلم الإنسان رياضة أخرى هي حمل العصا للصيد، ومن هذه العصا صنع الرماح والسهام ليصطاد بها الطيور والحيوانات، وتلت تلك المرحلة رياضة أفضل وهي ركوب الخيل، بعد أن أخضع الطيور والحيوانات لثقافة التدجين والأنسنة، ركب الحصان ليسبق الفريسة ويصطادها، وباتت هذه الرياضات الثلاث الجري والرمي وركوب الخيل من أقدس وأقدم الرياضات التي رافقت حياة الإنسان منذ عشرات الآلاف من السنين.
من الملاحظ أن كل نشاط إنساني فيه سلوك رياضي؛ لأن الرياضة بكل الأحوال نشاط وتعبير إنساني، يمده بالقوة والطاقة، ومن ثم يبني علاقات على مستوى الأفراد والمجتمعات، وهي في الوقت نفسه وسيلة لتحقيق غايات نبيلة، تغرس في النفوس روح المحبة، وتخفف وتقلل من الصراعات بين الحكومات، وتقلص السياسات السلطوية في كثيرٍ من الأحيان، وتخلق بين الناس روح التنافس الشريف من أجل إكساب روح المودة بين الأفراد والشعوب، والأهم من كل من هذا وذاك أن للرياضة في العمق ثقافة، ومن الأولى أن تتقارب الشعوب من خلال هذه الثقافة، لا كما رصدها الفكر الحداثوي بأنها صناعة وتجارة واقتصاد وتشجيع للفردانية، بالمحصلة الرياضة ثقافة مجتمعية، لأن كثيراً من الشعوب وفي كل الصباحات تمارس الرياضة في الساحات والحدائق والملاعب ولكل الفئات العمرية، وكأن هذه الشعوب تمارس طقوساً وعبادات، لهذا تبقى الرياضة ثقافة مجتمعية بالدرجة الأولى قبل أن تكون حركات ونشاطات جسدية.
الرياضة توأم الإنسان
ترك الإنسان خلفه ومنذ بداية نشأته على جدران الكهوف والمغاور رسومات وأشكال تصور نشاطاته اليومية، ومن ضمنها ما يتعلق بالرياضة العفوية من جري ورمي، وقد تم العثور في أماكن متعددة من العالم على أشكال من هذه الرياضات من العصر الحجري الأول أي قبل 150 ألف سنة، مما يؤكد بأن الإنسان حافظ على ممارسته للرياضة كنوع من النشاط اليومي وبخاصة ما يتعلق بالصيد، هذه الرياضات كانت ترمي إلى التكاتف والتعاون بين المجموعة حين تتعرض لأي عدوان خارجي (فيضانات أو حيوانات مفترسة) وكانت هذه الرياضة تحمل ثقافة مجتمعية لأن الفردانية لم تكن قد تبلورت، بل كانت تغرس روح الألفة والتعاون بين الكل، من جانب آخر لم تكن المرأة منسية في زوايا الكهوف، بل كانت تمارس هذه الرياضات بكل حرية كونها كانت تقود المجموعات البشرية وقتذاك بثقافتها البشرية وتحمل عبئ العمل في الصيد والتقاط الثمار.
في حين نجد الرياضة في سومر قد تبلورت ملامحها السلطوية نسبياً، وتعود نشاطاتها إلى 3000 سنة قبل الميلاد، من خلال الصور التي تجلت في ملحمة جلجامش التي تنافس فيها مع أنكيدو، وفي 2000 قبل الميلاد تميزت مصر الفراعنة برياضات متنوعة مثل الملاكمة والتجديف والرماية والصيد وغيرها، في حين أصبحت اليونان مهد الرياضات القديمة والحديثة، كونها عملت على ممارسة الرياضة بشكل منظم ، ففي عام 1500 قبل الميلاد أصبحت رياضة الجمباز والقفز من ضمن الألعاب التي كانت تمارس في مهرجانات رسمية، لكن عام 776 قبل الميلاد كانت بداية الاحتفال بأول دورة أولمبية، واستمرت حتى عام 393 ميلادي حين ألغيت بأمر من الإمبراطور الروماني معتبراً هذا النشيد الأولمبي يتوافق والديانة الوثنية، ولم يكن يدري بأن هذا النشيد يدعو للمحبة والتنافس الشريف بين الرياضيين، وهذا التنافس هو دعوة للسمو على المجد وبلوغ السماء بتفجير الطاقات الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال معرفة الشعار الذي يجمع خمس حلقات ملونة تمثل وحدة واتحاد القارات الخمس في وجه كل سلطة وهيمنة.
كانت المنافسات بين الرياضيين في رياضات متنوعة مثل الركض والمصارعة وسباق العربات والمصارعة ورمي الرمح والقرص وغيرها من الألعاب، تميزت أيام هذه الألعاب الأولمبية بإعلان الهدنة بين المقاطعات والأقوام، وكان يسمح للفرد بالتنقل والمشاركة، ويكلل رؤوس الفائزين بأكاليل من غصن الزيتون، أما ألعاب (هيران) فكانت بمثابة منافسات بين النسوة، واحتفلت النسوة بهذه الألعاب في القرن السادس قبل الميلاد، وفي العصور الوسطى أصبحت هذه الرياضات عنيفة نسبياً وبخاصة في إنكلترا، وفي إيطاليا تحولت إلى رياضة قتالية مثل المبارزة بالسيف، إلى جانب رياضة الخيل وكانت مخصصة للنبلاء والأغنياء.
وتجددت الألعاب الأولمبية في العصر الحديث في الدورة الأولى لها عام 1896م، حيث تم إحياء وتفعيل هذه الألعاب في أثينا مهد الألعاب الأولمبية القديمة، في حين باتت المنافسات بين الدول من خلال فرق جماعية وأخرى فردية، وتقام هذه الدورات كل أربع سنوات مرة واحدة، وبقيت المرأة منسية لا تمارس الرياضة كما هي، وفي بدايات القرن العشرين شاركت ونافست المرأة في أغلب الألعاب، بل أصبحت مديرة لبعض الفرق، وقد حصلت على هذه الامتيازات بفضل نضالاتها المستمرة بالتخلص من الثقافة الذكورية، حين قامت بتنظيم اعتصامات وحركات تساهم برفع سوية المرأة التشاركية ومشاركتها بالألعاب الأولمبية والقارية دون تمييز بين الجنسين.
تأثير السياسة الاستبداديةعلى الرياضة
منذ الانكسار الجنسوي الأول في بداية الألف الرابع قبل الميلاد، وبعد تجريد السياسة من معناه، بعد أن كانت مرتبطة بالأخلاق المجتمعية بممارسة أفضل الأعمال وأصبحت مرتبطة بالسلطة، بل باتت تخدمها؛ تدخلت السياسة من خلال السلطة والهيمنة في النشاط الرياضي الإنساني وأفسدته وأخرجته من محتواه المجتمعي والإنساني، فالألعاب الأولمبية كانت تقوم وتنتهي بإشارة من الإمبراطور، وفي بدايات القرن العشرين توقفت كافة النشاطات الرياضية بسبب الحربين العالميتين، منها بطولة كأس العالم لكرة القدم والألعاب الأولمبية، لكن تبقى للرياضة ثقافتها وفلسفتها وأهدافها، ومن أهم تلك المفاهيم والأهداف التي تبنتها الحركة الأولمبية هي أن تبعد السياسة عن هذه الأجواء، وألا يكون التمثيل في هذه الألعاب على أسس عرقية وجنسية.
من كل ما تقدم تبقى للرياضة رسالة إنسانية من خلال نشاطها ووظيفتها لتوطيد وتشجيع السلام والتفاهم بين الأفراد والشعوب، من خلال الاحترام المتبادل بين كل المختلفين في الإيديولوجيات والعقائد والطبقات، لهذا نصت اللجنة الأولمبية بأن ممارسة الرياضة حق طبيعي من حقوق الإنسان، ويجب أن تتاح الفرصة لكل فرد بممارسة الرياضة دون تمييز بين الجنس والنوع واللون.
من هذا المنطلق تختار الأمم المتحدة شخصيات رياضية بارزة، وتعتمدهم كسفراء للنوايا الحسنة، وهذه الخطوة جعلت من الرياضة وسيلة لدى أغلب الشعوب كسفير سلام ومحبة ضد كل الممارسات السلطوية السياسية، لكن دائماً تبقى للسياسية السلطوية هيمنتها بإفشال كل المساعي الخيرة بنشر ثقافة التقارب بين الشعوب، وقد لعبت دوراً بارزاً بإفساد الرياضة في الكثير من المحطات الهامة، ففي عام 1980م وأثناء الألعاب الأولمبية الصيفية في موسكو، قاطعت أمريكا و65 دولة أخرى هذا الكرنفال بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكردِّ فعل سياسي قام الاتحاد السوفيتي و 15 دولة أخرى تعمل في فلكها السياسي بمقاطعة الألعاب الأولمبية القادمة عام 1984م والتي ستقام في لوس أنجلوس بأمريكا، متذرعة بأسباب تتعلق بالأمن ومخاوف من إعطاء بعض من أفراد وفدها لجوءاً سياسياً، وعندما حاولت الصين تنظيم الألعاب الأولمبية عام 2008م وجهت لها انتقادات تتمحور حول عدم منح السلطات في الصين الديمقراطية لشعوبها، كونها تنتهك حقوق الإنسان، وفي الألعاب الأولمبية التي نظمتها (موريال) في كندا عام 1976م قاطعت الدول الأفريقية هذه الدورة بسبب السياسة العنصرية (الأبارتيد) بحق الإنسان الأسود، هذه الممارسات وغيرها من الدول الرأسمالية وهي تمارس كل سلطاتها وهيمنتها ضد أنبل الثقافات الإنسانية، وتقف سداً أمام تطلعات الشعوب بالتقارب والتماسك والتشارك في مزج ثقافاتها.
بالمقابل تعمل المنظمات الرياضية العالمية (الرابطة الرياضية والثقافية الدولية) و(منظمة الرياضة غير الحكومية الأوروبية) وغيرها من المنظمات والمؤسسات القارية والمحلية بتوفير اللقاءات بين الشعوب من أجل التفاعل بينها وتتبادل ثقافاتها ومعارفها، فمن خلال الرياضة تتقارب السياسات المختلفة وتعود بعض الدول لعلاقاتها الطبيعية، أو تقلل من حدة الخلافات، فمن خلال رياضة كرة الطاولة عادت العلاقات بين الصين وأمريكا، ومن خلال لعبة المصارعة وكرة القدم خيم الهدوء وشيءٌ من الدفء بين طهران وواشنطن.
العودة إلى الرياضة الأخلاقية بفلسفة الأمة الديمقراطية
بالمحصلة تبقى للسياسة لغتها وأدواتها وسلوكياتها التي تدعو وتشجع الأنانية والسلطوية، من خلال ترجمة رغباتها وأطماعها الميكافيلية، حين يستثمر الساسة الملاعب والصالات إلى ساحات حرب لتفريغ احتقاناتهم السياسية، ويستغلون هذه النشاطات الإنسانية النبيلة لتحقيق أجنداتهم التي لا تمت بصلة للأخلاق الرياضية، وتتأثر المجتمعات بهذه السياسات نوعاً ما كونها متعلقة بالرياضة وبخاصةً كرة القدم، فنجد العامة من محبي الرياضة وبخاصة الشباب ينتظرون بشدة كأس العالم ليتنافسوا فيما بينهم على من سيأخذ اللقب، لكن بالمقابل نجد في فكر وفلسفة الأمة الديمقراطية ثقافة بديلة عن هذه السلوكيات الخاطئة، وقد دعت هذه الثقافة إلى إحياء وتفعيل الممارسات والنشاطات الرياضية بتلك الأخلاق التي مارسها الإنسان منذ العصر النيوليتي المشبعة بالثقافة الكونية التي أبدعتها الأم الآلهة مروراً بثقافة الثورة الزراعية، وما نراه في شمال سوريا اليوم هو بداية تجسيد هذه الثقافة في السلوك والممارسات والنشاطات الرياضية التي ترسخ مفاهيم مجتمعية بين كل المكونات وتبعدهم عن روح الأنانية والانتماءات القومية والمناطقية، لأن الرياضة بالمحصلة ليس فوزاً أو خسارة فحسب، بل هي ثقافات إنسانية يمكن مزجها بثقافة كونية تناسب كل البشر.
No Result
View All Result