إن أي حربٍ دامية ستشتعل في المنطقة ستكون على أنقاض بلدٍ مدمرٍ أصلاً، يكاد لا يجد اللبنانيون فيه متنفساً للحياة غارقون بأزماتٍ مركبة، لا تبقي ولا تذرُ لأن بلدهم أصبح ساحة ميدانية لتصفية الحسابات السياسية بين دولٍ إقليمية، لم يجنوا من ورائها إلا مزيداً من التفرقة والدمار، وخراب الديار.
تُسابق الجهات الإقليمية والدولية التي تخشى تبعات الحرب، الزمن لاحتواء التصعيد قبل أن تصبح المواجهة الشاملة بين إسرائيل وحزب الله أمرا واقعا، وهي مواجهة سوف يكون لها تداعيات أوسع بكثير من الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة التي تُشارف على إكمال عامها الأول، فيما يطرح التصعيد المستمر على الجبهة اللبنانية تساؤلات عدة حول مستقبل الصراع على الجبهة اللبنانية خلال الأيام والأسابيع التالية؛ ما دفع مراقبين إلى ترجيح سيناريو اجتياح شامل للجنوب اللبناني، وربما للبنان بأكمله بما يشمل العاصمة بيروت كما يطالب الجناح الأكثر تعصبا في حكومة بنيامين نتنياهو، وهو ما يُنذر باندلاع حرب إقليمية تتجاوز حدود لبنان نفسه كما يرجّح خبراء.
جبهة مفتوحة على الحدود اللبنانية
حزب الله منذ السابع من تشرين الأول واندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس أعلن في اليوم التالي أنه دخل الحرب بصفة جبهة ” دعم وإسناد وإشغال” لإسرائيل، يوم الأربعاء 18 أيلول مع قرب دخول الحرب في غزة عامها الأول؛ ليبدأ التصعيد يبتعد عن مستوى الاستهداف والاستهداف المضاد.
فالساحة التي حاولت إسرائيل جر حزب الله لها، وهي ساحة الحرب السيبرانية، حزب الله لا يملك فيها لا ناقة ولا جمل، ولا يستطيع العوم فيها، فساحة حزب الله هي ساحة الصواريخ والراجمات، والمدفعية وفي بعض الأحيان الطائرات المسيرة التي يتفاخر بها بين الفينة والأخرى.
ففي الوقت الذي شهد فيه لبنان سلسلة تفجيرات أجهزة البيجر اللاسلكية؛ زار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قاعدة رامات ديفيد الجوية، أكبر القواعد في المنطقة الشمالية، وواحدة من ثلاث قواعد جوية رئيسية في إسرائيل، وأعلن من هناك أن “مركز الثقل يتحرك شمالا”، مُدشِّنا ما أطلق عليها “مرحلة جديدة من الحرب”.
في اليوم التالي الموافق 19 أيلول الجاري، شنَّت إسرائيل الغارات الأكثر كثافة على لبنان منذ بدء الحرب على غزة، وربما تكون هي الغارات الأشد وطأة منذ سنوات طويلة، حيث طالت الضربات تلك قرى الجنوب اللبناني، عدشيت، القصير، وقبريخا، وبني حيان، ومركبا، ورب ثلاثين، ومجادل، ومحرونة، حيث يعيش مئات الآلاف من الناس، كما حلَّقت طائرات حربية إسرائيلية فوق العاصمة بيروت مُتعمِّدة اختراق حاجز الصوت في غارة وهمية تهدف إلى خلق حالة من الذعر، والإرباك لسكان العاصمة.
فقبل إطلاق تفجيرات البيجر واللاسلكي، أرسل الجيش الإسرائيلي الفرقة 98 التي تضم ما يقرب من 10,000 إلى 20,000 جندي من الكوماندوز، والمظليين إلى الشمال، لتنضم إلى الفرقة المدرعة 36، التي أعاد الجيش الاسرائيلي نشرها من غزة شمالا في وقت سابق من هذا العام إلى جانب هذه الوحدات، وتضم هذه القوات الفرقة 91، وهي الفرقة الرئيسية المسؤولة عن تأمين الحدود الإسرائيلية مع لبنان، فضلا عن القوات الاحتياطية لهذه الوحدات.
بينما القصف مستمر يومياً بلا توقف منذ ذلك الحين، وفي يوم الأحد 22 من أيلول الجاري، أصبحت الغارات أكثر غزارة وعنفا، وأعلن جيش الاحتلال، أن المقاتلات هاجمت نحو 1300 هدف لحزب الله في الجنوب، والشرق اللبناني، وجاءت هذه الخطوات التصعيدية متسقة مع تصريحات القادة الإسرائيليين والتحركات المتزامنة للجيش باتجاه الجبهة اللبنانية، التي تسارعت خلال الأسبوعين الأخيرين لتتحول إلى جبهة مفتوحة أمام التصعيد دون حدود وضوابط وقواعد اشتباك.
حزب الله وتداعيات التصعيد
سلسلة العمليات التصعيدية التي وصفت بالقاسية على حزب الله استهدفت قيادات وكوادر عسكرية في الحزب، منذ أن بدأت بتفجير أجهزة البيجر ثم أجهزة الاتصال اللاسلكي، وتلا ذلك اغتيال عدد من قيادات الصف العسكري الأول، التي باتت محاولة لكسر حزب الله، وإدخاله في دوامة الإرباك على مستوى التخطيط والتنفيذ خصوصاً مع إعلان إسرائيل إن الحرب دخلت مساراً جديداً.
لكن إسرائيل لم تضع لنفسها أهدافاً واضحة المعالم، فالتصعيد الإسرائيلي وتداعياته على الحزب والخيارات التي يملكها للرد، خصوصا في ظل حدوث تحول عميق في نظرة إسرائيل أساسا إلى الصراع سواء مع قوى حزب الله، أو مع المحور بشكل كامل على مستوى دول الإقليم يفتح الباب أمام تكهنات كثيرة لأهداف إسرائيل.
إسرائيل وخبراء أمنيون يرون أن العمليات الأخيرة ضد حزب الله كشفت عن خروقات لمنظومته الأمنية، أفقدت الحزب عددا من المزايا، التي يتمتع بها، وهو الذي يخوض حرباً يسميها “دعم للمقاومة الفلسطينية” امتدت على مدار عام تقريبا، وهذا ما تعول عليه إسرائيل في أحداث صدمة للحزب وقواعده الشعبية، وإن سنحت الفرصة ستصعد وتسرع وتيرة حربها وعدم منح الحزب فرصة لالتقاط أنفاسه كما يقول خبراء.
والهدف من ذلك هو محاولة إلحاق الضرر بما تسمى “منظومة الردع” لدى الحزب، وإضعاف منظومة القيادة عبر تصفية قيادات عسكرية وازنة وإظهاره في حالة انكشاف أمني، في محاولة للتأثير على مكانته لبنانيا وإقليمياً وتوجيه ضربة قوية لقدراته العسكرية والأمنية، وضرب صورته وهيبته وإضعاف معنويات حاضنته وقواعده الشعبية، إضافة إلى إحداث خلل في موازين القوى داخل لبنان لمصلحة خصومه والتحريض عليه.
وتسعى إسرائيل من خلال ذلك إلى فرض شروط على الحزب تحت الضغط العسكري، وربما عبر هجوم عسكري واسع، قد يتضمن اجتياحا بريا، من أجل إجبار الحزب على التراجع عن الحدود إلى ما بعد نهر الليطاني، ووقف دوره العسكري في مساندة قطاع غزة، وبما يتيح عودة مستوطني الشمال إلى منازلهم.
بينما حزب الله وعلى الرغم من تنامي الغارات الإسرائيلية الكثيفة التي أضعفت جزءا من قدراته؛ فإنه لا يزال يحتفظ بمفاجآت، ولم يستخدم بعد أسلحته الدقيقة والبعيدة المدى، لأنه لا يرغب باندلاع حرب شاملة، وهذا بحسب ما يصف الحزب نفسه معتمداً على ما يصفه بالصمود الاستراتيجي، واحتواء الضربات المؤلمة، والرد بقدر محسوب جدا على إسرائيل، بما يمنحه فرصة لاستعادة التوازن وترميم قدرات الردع لديه وتجاوز تداعيات الإخفاقات الأخيرة، لمواصلة دوره في مساندة غزة.
كما يبقى لدى الحزب خيار الخروج من حالة التحفظ والتحلل من كل الالتزامات، والدخول في مواجهة مفتوحة واشتباك عالي الوتيرة مع الجيش الإسرائيلي، والدفع بكل قوته في هذه المعركة بانتظار ما قد تسفر عنه التحركات الدبلوماسية بين الوسطاء والإدارة الأميركية.
إيران والتعاطي البراغماتي
لا بد من الإشارة إلى طبيعة الموقف الإيراني بهذا الصدد وأهميته، إذ يعدّ حاسما جدا في قرار الحزب، وقد عبرت تصريحات كثير من المسؤولين الإيرانيين وفي مقدمتهم الرئيس مسعود بزشكيان عن عدم رغبة طهران في اندلاع حرب جديدة بالمنطقة، وأن بلاده تريد السلام ولا تريد الحرب.
بزشكيان وخلال غزله السياسي أشار أيضاً إلى أنه من غير الممكن “أن تصبح لبنان غزة أخرى”، وأن الأمور قد “تتفاقم إلى صراع إقليمي يمكن أن يكون خطيرا على مستقبل العالم”، مشددا على أن “إسرائيل هي التي تسعى إلى خلق هذا الصراع الواسع”، لكن لم يتضح بعد ما إذا إيران ستقدم دعمها المطلق لحزب الله، أم سيلقى مصير حماس في إضعاف قوته لأدنى المستويات وفق سياسة الصبر الاستراتيجي المتبعة من المحور عامة.
وفي المقابل، لا بد من النظر في هذا السياق إلى خيارات الجانب الإسرائيلي ومدى استعداده لمواصلة الحرب بهذه الوتيرة والانتقال إلى مرحلة الغزو البري، مع الإشارة إلى موقف الإدارة الأميركية ومدى استجابتها للخطط الإسرائيلية، سيما وإن حزب الله لم تصدر عنه بعد أي إشارات على استعداده للخضوع للشروط الإسرائيلية، ويُرجّح ألا يوافق على ذلك، رغم الضغط العسكري الهائل لفرض شروط اسرائيل، التي تضمن تحقيق التهدئة في الشمال وعودة المستوطنين النازحين.
ووفق هذه الاحتمالات يرى محللون عسكريون، إن إيران تغازل الغرب لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية، لكنها لن تتخلى عن حزب الله، الذي يسعى لتوجيه ضربات تحمل رسائل للجانب الإسرائيلي، بأن لديه القدرة على إلحاق الضرر، إن هو واصل الحرب والدليل على ذلك إعلان إسرائيل أنها اعترضت صاروخاً أطلق من لبنان باتجاه تل أبيب، في سابقة منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة قبل نحو عام.
لبنان المنهار وتحمل أعباء الحرب
تتسارع وتيرة التصريحات والتحركات الدولية على رأسها تحركات الولايات المتحدة الأمريكية، التي أطلقت مبادرة مشتركة مع عدد من الدول الغربية والعربية للدعوة إلى وقف إطلاق النار بين حزب الله اللبناني، وإسرائيل لمدة 21 يوما من أجل إفساح المجال للتوصل إلى تسوية سياسية.
وقال الرئيسان الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، في بيان مشترك: “لقد عملنا معا في الأيام الأخيرة على دعوة مشتركة لوقف مؤقت لإطلاق النار لمنح الدبلوماسية فرصة للنجاح وتجنب مزيد من التصعيد عبر الحدود”، لكنَّ متابعين يرون أن هذه الدبلوماسية أثبتت فشلها في حرب قطاع غزة، ولبنان لا يحتمل المماطلة نظرة لعوامل عدة انهيار اقتصادي كبير، واكتظاظ سكاني إلى جانب اللاجئين السوريين، الذين لا مأوى لهم يعودون إليه، وعنجهية نتنياهو الذي يحاول الهروب إلى الأمام من اخفاقاته الدبلوماسية والعسكرية.
لبنان يمر في وضع صعب ودقيق جدا ويعيش فترة من تنفيذ خطة طوارئ لمحاولة إنقاذ الوضع الاقتصادي في البلاد، إلا أن استمرار التصعيد “سيأخذ البلاد نحو وضع صعب ومجهول” حتى مع استمرار المساعدات والدعم الدولي، حيث يؤكد خبراء اقتصاديون أن لبنان ليس له قدرة على تحمّل حرب جديدة فيما يغرق في أزمة اقتصادية ونقدية ومالية مركّبة وعميقة تفاقمت بفعل تحلل مؤسساته، وسط فراغ في رئاسة الجمهورية منذ تشرين الأول من العام الماضي، وحكومة شبه مشلولة وفراغ في موقع نقدي حساس، هو حاكمية مصرف لبنان المركزي.
وفي هذا السياق، يعتقد خبراء اقتصاديون يرجحون أن لبنان الذي يعاني بالفعل تحت وطأة عدة أزمات ناجمة عن سنوات من الجمود السياسي، ونحو 12 شهراً من القتال بين إسرائيل وحزب الله، قد يواجه تباطؤاً اقتصادياً “كبيراً” في أوائل عام 2025 بل أن الصراع المتصاعد بين إسرائيل وحزب الله، قد يؤدي إلى انكماش اقتصادي يتراوح بين 10 و25 بالمائة في لبنان هذا العام، مع تدمير قطاعات حيوية من الزراعة إلى السياحة وتضرر البنية التحتية الحيوية.
وبناءً على ذلك يخشى اللبنانيون أن يستمر نتنياهو في عنجهيته وغطرسته، اللتين أبداهما في سياق الحرب على قطاع غزة وتكرار هذا السيناريو في لبنان، الذي يمر بإحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، وهو ما يشكل حالة قلق عارمة لدى اللبنانيين جراء الخوف من انزلاقهم بحرب جديدة مع إسرائيل، خصوصاً أن التداعيات الكارثية لحرب تموز 2006 لا تزال حية في أذهان كثيرين منهم.