No Result
View All Result
المشاهدات 0
مجموعة مقالات مدمجة عن صحيفة «لو موند» الفرنسية –
يتعثر نظام بشار الأسد في طريق استعادته السيطرة، بواسطة حليفيه الروسي والإيراني، على الأراضي السورية، بثنية جغرافية تقع في الشمال الغربي هي قطاع إدلب. ويقيم في القطاع ما يناهز ثلاثة ملايين شخص، نصفهم هربوا من مسارح حرب أخرى، ويحتشدون بين الحدود التركية، إلى الغرب، وبين مناطق يحتلها أنصار أنقرة المسلحون، إلى الشمال، وآلة النظام السوري وأعوانه، إلى الجهات الأخرى. وينتمي عشرات آلاف المسلحين إلى كوكبة من الجماعات المسلحة المتفرقة المشارب والأهواء والأيديولوجيا من إسلاميين بعضهم تجوز مخالطتهم ومعاملتهم تساندهم تركيا، وآخرون لا تجوز فيهم لا هذه ولا تلك، إلى أنصار «الجهاد» وهم الكثرة الغالبة. وعلى حدود القطاع، يحشد النظام قواته، وتشن الطائرات الحربية الروسية غاراتها وينتظر الهجوم الحاسم رسو ميزان القوى والعلاقات الدولية بين أنقرة وموسكو وطهران على قرار مناسب، ففي خريف 2018، ينبغي أن تبلغ الحرب بين النظام ومعارضيه خاتمتها، وعلى الأرض التي شهدت بدايتها، قبل سبعة أعوام.
ففي أوائل حزيران 2011، كانت ريح الثورة تنفخ منذ أسابيع على المنطقة الريفية والمحافظة القائمة في شمال غربي سورية، وفي مدينة سراقب الصغيرة، إلى الشرق، تتابعت التظاهرات السلمية منذ 25 آذار وهتف المئات من السوريين في الشوارع بشعارات مناهضة للنظام. وبعد شهر على هذه التظاهرات، انتقلت حركة المعارضة إلى إدلب، مركز المحافظة المعروفة باسم المدينة، ورد النظام بالقمع فأوقف المعارضين، ونشر مدفعيته، وحلقت الحوامات في سماء المدينة وفتحت نيرانها. ومنذ ذلك الحين انقلبت إدلب شاغلاً ومحل اهتمام بعد أن كانت، مدينة محافظة، مغمورة وفقيرة فهي ممر تجاري إلى تركيا القريبة، وأرضها قاحلة تنبت الزيتون الذي يعصر ثمره زيتاً، ولا تعرف بغير بعض المواقع الأثرية فيها. وفي أسابيع قليلة قدمتها الحوادث إلى موقع الصدارة.
وفي 4 حزيران 2011، على مسافة 50 كم إلى الجنوب الغربي من إدلب، اجتمع نحو ألف شخص في جسر الشغور ليشيّعوا شاباً قتلته قوات الأمن في اليوم السابق، واحتل قناصو النظام السطوح المطلة على ساحة البلدة وطرقاتها وسار في وسط الجمع مسلحون فتحوا النار على القناصة فسقط قتلى من الطرفين. وأحصت لجنة العفو الدولية («أمنستي إنترناشونال») 25 قتيلاً من المدنيين، وفي 6 حزيران أعلنت دمشق أن 120 شرطياً دعوا إلى المساندة قتلوا قبل أن يتاح لهم التدخل، وأن كتيبة مدرعة في طريقها إلى جسر الشغور نُصب لها مكمن ووقعت فيه. وكانت خسارة النظام، يومها، الأثقل في خسائره، والعلامة البارزة على اجتياز المحافظة عتبة «السلمية» التي امتنعت التظاهرات في المناطق السورية عن اجتيازها في حينها وآذن ذلك بابتداء الحرب، ويروي المعارضون صيغة أخرى لواقعة جسر الشغور كان قتلى الشرطة ضحايا مجزرة ارتكبتها قوات النظام في متمردين رفضوا تنفيذ أمر رؤسائهم بإطلاق النار وخصت الصحافية اللبنانية الأسترالية رانيا أبو زيد الحادثة الأم هذه برواية تفصيلية في كتابها “لا جواز للعودة إلى الوراء”.
ومن الشهود الذين تحدثت رانيا أبو زيد إليهم، فؤاد، شاب اعتنق الثورة السلمية، وحضر التشييع ويرى فؤاد في الاشتباك المسلح ثأر «الأبناء» من «الجرائم التي ارتكبت في حق آبائهم وأجدادهم». وهو يعني بـ الجرائم قمع قوات أمن حافظ الأسد، والد بشار، أهل جسر الشغور إبان أحداث الإخوان المسلمين (1979 – 1982) واستمر القمع طوال عقود وجذوة تذكر الماضي الأليم هما السبب في استقبال إدلب المعارضة المسلحة، جزئياً. فقرب المحافظة من تركيا اضطلع بدور حاسم في الأمر، ووسع الجماعات المسلحة تهريب السلاح وانسحاب قوى الأمن إلى المراكز المدنية الكبيرة، يسَّر التهريب. ولم يجمع معارضو نظام الأسد على هذا المنحى ففؤاد الذي «يكره النظام» لا يرى في المسلحين وأعمالهم ما يرضيه، على ما تلاحظ الصحفية رانيا أبو زيد. وعاملٌ آخر كان له دور في اندلاع الأعمال المسلحة، هو محاذاة إدلب، المحافظة ذات الغالبية السنية، محافظة اللاذقية، معقل سلالة آل الأسد، من الطائفة العلوية.
وغداة مهاجمة جسر الشغور، عمد النظام إلى تجميع قواته وتواتر عملياته، من قصف واعتداءات الشبيحة وإعدامات من غير محاكمة واشتباكات محلية وكمائن، وفي الأثناء امتدت التظاهرات وتكاثرت، واختلطت بالإضرابات، فتراجعت قوى الأمن، وخسرت الموقع تلو الآخر. وتخلى النظام، صيف 2012، عن معبر باب الهوى الحدودي، إلى الشمال من مدينة إدلب. وبعد أشهر قليلة، سيطر الجيش السوري الحر آنذاك على سراقب وانضم إليهم ونواته الأولى من الضباط والجنود الذين تركوا قوات النظام، والذين أخرجوا من ضواحي حمص قسراً.
وأيقظ اتساع الانتفاضة على النظام اهتمام بعض الدول الإقليمية التي تجمعها بالمنتفضين روابط ومصالح قديمة وقوية، وعلى رأسها دول خليجية متفرقة، وقدَّرت هذه الدول أن الانتفاضة وسيلة إلى كسر «المحور الشيعي» الذي يصل إيران بحزب الله اللبناني عن طريق سورية. ولم تلبث هذه المقاصد والاستراتيجيات أن غلبت على الأماني المحلية، ورجحت كفة التمويل والتسليح على كفة العوامل والمثل الأولى، وفي أواخر 2012، انعقد مؤتمر أنطاليا، في تركيا، وحسم مسألة تهميش ألوية «الجيش الحر» التاريخية، وقدَّم عليها الجماعات الإسلامية المتطرفة. وعينت ألوية «الجيش الحر» مجلساً عسكرياً أعلى، ترأسه العميد سلام إدريس، لكنه كان صفر اليدين من الأدوات والوسائل التي تمكنه من بلوغ غاياته، وبقيت مناشدات الألوية المعارضة، وتنادت هذه إلى إعلان ولاءاتها «الإسلامية»، وظهرت جماعات مسلحة تبارت في التطرف، وقادها أجانب يسهل عليهم تملق حرس الحدود التركي التسلل إلى الداخل السوري. وعلى الرغم من عسكرة الحركة المتعاظمة، وهاجس القصف الجوي المقيم، حاول الناشطون المدنيون السهر على دوام روح الانتفاضة السلمي والاجتماعي، ففي كفر نبل، استمر الأهالي على التظاهر أيام الجمع، ورفعوا لافتات كتبوا عليها شعارات انتقادية ساخرة لا تنضب ابتكاراتها، وغطت جدران سراقب كتابات غرفت من معين أشعار الشاعر الفلسطيني المعروف، محمود درويش، وفي أنحاء متفرقة من محافظة إدلب، نظمت نشاطات إسعاف، وبادر معلمون إلى فتح أبواب المدارس مجدداً.
وأفضى تكاثر الجماعات المسلحة الراديكالية المحلية إلى شيوع الاضطراب والفوضى، وانتشر وباء أعمال الخطف وابتزاز الفدية، وضاق الأهالي ذرعاً بالجماعات المسلحة، وبالمتطرفة منها على وجه الخصوص. وغرقت منطقة إدلب كلها في أزمة متفاقمة فقرب الحدود التركية، تكاثرت مخيمات اللاجئين، واعتاش النازحون السوريون من المساعدات الإنسانية. وانهارت شبكة الأعمال الزراعية التي كانت تعيل 70 في المئة من السكان وحرق القصف والقتال الحقول، ودمر أبنية الري التحتية وفي كانون الأول 2013، نهب تحالف جماعات مسلحة إسلامية مخازن أسلحة الجيش السوري الحر. وأسقط في يد الدبلوماسيين الغربيين وبين رعاة التحالف الجديد حليفان هما قطر وتركيا اللتان قدمتا الدعم لجميع الفصائل المرتزقة في سوريا. وتصدرت المشهد السياسي والقتالي في محافظة حلب، مطلع 2014، جبهة النصرة، فرع «القاعدة» السوري. وتعاظم قوة هذا التيار المتطرف كان ثمرة مباشرة لتردي قوة الألوية المنتسبة إلى «الجيش الحر» ورفد خلايا «النصرة» الأولى بالمرتزقة المجربون الذين قدموا من العراق والقوقاز.
وعلى خلاف منافسيهم من مرتزقة داعش الذين اختاروا المجابهة الرأسية وإقامة الخلافة في الحال – مال مقاتلو جبهة النصرة، المنحدرون من الرحم العراقي، إلى تكتيك الذوبان في المشهد السوري المنتفض، ومداراة الأهالي في بادئ الأمر ودعا زعيم التنظيم، أبو محمد الجولاني، في 2013 إلى تلافي الأخطاء التي وقع فيها «القاعدة» في بلاد أخرى مثل عنف المجاهدين العراقيين الممنهج، الذي استجلب عليهم رفض الأهالي وتأنيب أسامة بن لادن. ويرقى تسلل الجولاني إلى سورية، في أواخر صيف 2011 وأوكل إليه تنظيم القوى المقاتلة الأولى ومعرفته بالميدان السوري كانت قوية. فسورية كانت ممر آلاف المتطوعين للقتال في العراق غداة الغزو الأمريكي 2003، وعفا بشار الأسد عن المئات من المعتقلين الإسلاميين، وعدد منهم من إدلب وما تتبعها من مدن، سرعان ما انضموا إلى جبهة النصرة التي كان الإعلان عن ولادتها في كانون الثاني 2012م.
وبرزت «النصرة» كقوة عسكرية منظمة وفاعلة، ومكنتها درايتها بالعمليات الانتحارية من اختراق خطوط الأعداء الأمامية على نحو قدّرته الجماعات الأخرى تقديراً عالياً، فكانت سباقة إلى الاستيلاء على قاعدة تفتناز الجوية، في كانون الثاني 2013، غير بعيد من إدلب. وكان هذا إنجازها العسكري الأول، وجمعت الموارد المالية من «القاعدة» العراقية، أول أمرها، ثم استغنت عنها، بعد القطيعة، بالغنيمة المحلية، وبعمليات خطف مجزية، مثالها خطف راهبات معلولا، والإفراج عنهن لقاء 15 مليون دولار سددتها قطر الداعمة الرئيسية لها، إلى تسديدها عمليات أخرى. فبسطت «الجبهة» نفوذها على ضواحي محافظة إدلب، وانفردت بالنفوذ حيث وسعها ذلك. فأنشأت شرطة «شرعية»، وأعدمت بغايا ومدمنين (بحسب تفكيرهم)، وأسكتت المعارضين المدنيين، وأرست أركان إمارتها في حين كانت الجماعات الأخرى تقتتل وتمزق بعضها بعضاً.
وفي 2014، قضت «النصرة» على منظمتين تولت الولايات المتحدة تدريبهما وتسليحهما واستولت على سلاحهما، ورداً على قصف طائرات أمريكية من غير طيار بعض قادتها في 2015، خطفت «النصرة» العشرات من مقاتلي «الفرقة 30» من «الجيش الحر»، التي ترعاها واشنطن، واستولت على سلاحهم الجديد. فخلصت واشنطن من الحادثة إلى الامتناع من المجازفة بتسليح المعارضين السوريين بسلاح مضاد للطائرات، وفي 28 آذار 2015، سيطر تحالف تقوده «النصرة» على إدلب في أعقاب معارك دامت خمسة أيام، وهربت قوات النظام من المدينة، واتخذ أبو محمد الجولاني منها «عاصمة» ولايته، ولم يشأ الجولاني مهاجمة الساحل العلوي، خشية تكتل أهله، فتوجه إلى حماة، وقدّر أن انهيار النظام هناك (كان ليفتح) الطريق إلى دمشق.
وبينما كانت مدن منتفضة أخرى تتضوّر جوعاً، كانت مخابز إدلب تخبز الطحين الوفير، وتتولى دائرة القمامة البلدية رفعها، وتباع بندورة (طماطم) إدلب في أسواق دمشق، فالمحافظة واسعة المساحة على نحو تتعذر معه محاصرتها، لكن قبضة الإسلاميين المتشددين عليها أدت إلى هرب الموظفين، وأرادت السيطرة على المجالس المحلية المدنية. وابتزت الجمعيات غير الحكومية فانفض الناشطون الذين وفدوا إلى إدلب وغادروها إلى تركيا وغيرها. وفي ليلة 10 حزيران 2015، تسلل أحد قادة «النصرة» إلى ضيعة قلب لوزة الدرزية، وأراد مصادرة دار أحد السكان، فأوقع الاشتباك 23 قتيلاً من أهل القرية، معظمهم من آل الشبلي. وحمل دروز جبل السماق على تغيير معتقدهم عنوة، خلافاً لالتزام الجولاني على «الجزيرة»، وحيث تغلبت «النصرة» من التفرقة بين الجنسين، وتقيم المحاكم الشرعية، وتقصي الكفار والمرتدين حسب ما تقرر هي وتنتزع أولادهم من أهلهم وتقرهم على تعليمها ومقررها الدراسي.
ومع القوات الروسية الجوية تغيرت الموازين، فاستعاد النظام ضاحيتي دمشق المولوية وداريا، وخسرت المعارضة حلب الشرقية في كانون الأول 2016. فكانت ضربة قاصمة ووجهت الجماعات المسلحة في مناطق «التهدئة» إلى إدلب، وفي آستانا، عاصمة كازخستان، صيغت في كانون الثاني 2017، خطة جديدة رسمتها موسكو، وقضت بـ مصالحات ومقايضات عبر التفاهم مع الأتراك بالتنازل لها عن عفرين، أخرجت الجماعات المتفرقة من شمال حمص والغوطة الشرقية (دمشق) ومحافظة درعا. وقضت الخطة بمحاربة الجماعات «الإرهابية» ومنها جماعة جبهة النصرة وعلى هذا، وسع بشار الأسد بمسانده موسكو، القضاء على المعارضة، جماعة بعد أخرى، وغرقت صفوف المعارضة في نزاعات مسلحة وثارات وتصفيات لا نهاية لها. وتستقبل إدلب فلول هذه الجماعات وضغائنها، وضمت «النصرة» بعض هذه الجماعات أو أجزاء منها تحت اسم هيئة تحرير الشام، وشنت هجمات مميتة على حمص في شهر شباط من عام 2017 وعلى حي شيعي بدمشق في آذار 2017. ورد النظام بغاز السارين في 4/4/2017، على خان شيخون، وقصف كل المراكز الطبية والمستوصفات التي وسعه بلوغها، وأوكل الاتفاق الروسي ـ التركي الأخير في سوتشي عبر الضغط الروسي على تركيا بتبنيها كمنظمة إرهابية، بعدما كانوا يقودون المدينة مناصفةً بينهم ومن ثم تقويضها والاتفاق على التخلص منها.
No Result
View All Result