تحقيق/ فيروشاه أحمد –
باتت إدلب تشكل في المشهد السياسي السوري ساحة صراع بين الدول الإقليمية والدولية، كل دولة تخلق لنفسها مساحة من العلاقات الاقتصادية مع النظام أو مع الحكومة المقترحة بعد الاستقرار السياسي لسوريا.
لو تتبعنا الأزمة السورية منذ انطلاقتها 2011 وحتى الآن وما حدث فيها من حروب وويلات وقتل وتهجير، ودمار للبنية التحتية، وخلخلة في العلاقات الاجتماعية والروابط الأخلاقية، حينها من الممكن أن نقرأ ما يمكن أن يحدث في إدلب، وما يمكن أن يحقق كل طرف من أرباح سياسية واقتصادية في ظل سياسات محورية تلتقي فيها بعض الأطراف تارة وتختلف تارة أخرى تبعاً لمصالحها ومدى تحقيقها بأقل الخسائر.
تلك الدول والقوى المتصارعة على سوريا الدولية منها والإقليمية تعمل بشكل أحادي مع القوى المحلية الموجود على الأرض وتتبنى معها علاقات عسكرية أو سياسية في إطار تحالف ثنائي أو ثلاثي بغية تشكيل قوة تتصدى فيها للقوى الأخرى التي تنافسها في تقسيم الكعكة السورية.
سياسات ومصالح عرجاء
كل دولة تبني سياسات محورية مع حركات أو تيارات أو دول تعيش أزمة سياسية أو اقتصادية تبقى سياسات عرجاء، ولا يكتب لها النجاح، كون السياسات المحورية تتم بين قوة كبيرة والأخرى صغيرة وناشئة، ولا يبدو التكافؤ بينهما واضحاً في كل النواحي، بل هي علاقات تكتيكية (براغماتية) تعتمد على طرق سهلة وقصيرة تحقق من خلالها أجنداتها في دولة ما.
بالمحصلة تعتمد الدول القوية ذات التأثير المباشر على السياسات العالمية وبخاصة في الأزمات التي تلحق ببعض الدول والشعوب على السياسات المحورية، ولا تمارس هذه الدول تلك السياسات إلا إذا تأكدت بأن تلك الشعوب أو من يقودها تعيش تناقضات مع نظام سياسي لم يعد قادراً على الاستمرار، وتتطلع وتبحث عن مستحقات سياسية جديدة، أو تغيير في بنيتها التحتية.
تبدأ هذه العلاقة من قبل الدولة القوية باحتواء حركة سياسية أو تحررية من خلال دعم عسكري أو لوجستي وفق الحاجة حتى تتمكن تلك الدولة من احتواء قيادة تلك الحركة وفق ما تشاء، حينها تبدأ المرحلة الثانية وهي الاحتضان والرضوخ لأغلب الإملاءات، في هذا الأثناء لا تبقى لتلك الحركة أي إرادة في تحقيق برامجها السياسية والعسكرية إلا بالعودة لتلك الدولة الداعمة لها، من هنا تعيش تلك الحركة أو الفصيل حالة احتضار سياسي.
ما تعيشه إدلب بتعدد الأحزاب والتيارات والحركات والفصائل تمثل هذه السياسة المحورية التي تغدق عليها من المال السياسي شريطة أن تطبق كل الشروط التي تبنتها، من هنا لا يمكن التعويل على هذه الفصائل بصناعة أي قرار سياسي أو حتى المشاركة فيه، بل تجد الدولة الداعمة بأن سياساتها تأخذ طريق النجاح دون أن تكلف جهدا عسكرياً أو حتى دبلوماسياً من خلال تلك الفصائل التي أصبحت أدوات طيعة وسهلة لتحقيق تلك الاجندات الخارجية.
سقوط الحركات في مصائد السياسات المحورية
بادئ ذي بدء لا تمتلك هذه التيارات حقائق ومفاهيم صحيحة لبلوغ السلطة، أو إقناع الجماهير بمشروعها السياسي، وأحياناً لا تعتمد على منهج صحيح في إنهاء الأزمة التي تجتاح بلدها، وفي بعض الأحايين لا تمتلك أدوات وآليات صحيحة قد تجعل من ذاتها ذو تأثير على الحالة السياسية والاجتماعية، من جانب آخر يعملون بخلاف المنهج الصحيح الذي يحتفظ الناس في ذاكرتهم بأفكارها وبرامجها الميدانية التي تنهي الأزمة مباشرة. وتهيئ للمجتمع حياة تليق بها، وتعطيها دفعاً قوياً بالسير نحو الحياة الحرة، من هنا نجد بأنها تتميز بمجموعة أفكار ونظريات تقليدية ونمطية منقسمة على ذاتها، لا تواكب تطلعات سوريا وشعوبها. لهذا؛ تسعى كل القوى العظمى إلى استغلال هذه الفصائل والتيارات، وتسقطها في فخ التبعية.
ثقافات وهمية وأجندات متباينة
قامت دولة الاحتلال التركي بفتح حدودها أمام المرتزقة ودعمتهم بالسلاح والعتاد وجمعتهم في إدلب وتحكمت في مصيرهم؛ الأمر الذي شكل وباء على هذه المدينة، وبات وجودهم يشكل خطراً على المنطقة.
إدلب… على شفير الهاوية
كل الدول المتصارعة تتكالب على “قصعتها” في ادلب وتفرز سمومها بكل عدوانية في الوقت ذاته، في ظل غياب تام لآمال حلول سياسية ودبلوماسية، من هذه التجليات يمكن استخلاص خصائص محددة، فحسب التطورات اليومية التي تجري في إدلب ومن خلال ممارسات النظام يمكن القول بأنه لم يجد نفسه في يومٍ ما ومنذ نشوب الأزمة؛ يكرس جهده السياسي والمادي لوضع حلول وطنية ديمقراطية قوامها إعادة بناء المجتمع السوري بكل أطيافه مكوناته.
من الذي يكرس الأزمة ويديمها؟
دون أدنى شك يبقى النظام في سوريا بمقدمة العاملين على ذلك، فخلال أكثر من أربعة عقود مضت رسخ سياسة الحزب الواحد، ولم يكن مهتماً بمجمل القضايا السياسية والاجتماعية والمعيشية التي كانت تعصف بالسوريين، هذا الاهمال سمح للقوى الشعبية بالانتفاضة، وحين باتت سوريا ساحة للفوضى والقتل والتهجير تدخلت الدول الاقليمية والدولية عسكرياً وسياسياً، وعملت كل دولة على رسم سياسات محورية مع الفصائل والتيارات والاحزاب السورية وفق ما تقتضي مصالحها الاستراتيجية.
بعيداً عن تفاصيل ممارسات النظام قبل وبعد الأزمة يمكن القول بأن الممارسات الفعلية جاءت من خلال النخبة التي شكلت القاعدة الواسعة والتي اسندت إليها قيادة وإدارة الدولة، هذه النخبة لم تتخذ قرارات سياسية واقتصادية وتنموية وثقافية تتناسب والتنوع الاجتماعي السوري الغني بثقافاته ولغاته، بذات السياق لم تعي هذه النخبة الأسس العلمية للسياسة ولم تحاول الاستفادة من المواقف حسب مقتضياتها، بل كانوا يمارسون سياسات ارتجالية وعفوية كُرست من أجل تطبيق نظريات حزبوية ضيقة، والاعتماد على وسائل بدائية لا قيمة لها، ولم تخلق غايات تمس الوجدان المجتمعي.
بكل المقاييس لم تتمكن تلك النخبة من استيعاب اللعبة السياسية لا في الداخل ولا في الخارج، بل كانت تعمل في إطار الحفاظ على مصالحها الشخصية وكرست نفسها بتمجيد السلطة والحفاظ عليها، أما قضايا الاصلاح ومحاربة الفساد فلم تكن ضمن سياق برامجهم، كونهم لم يعتمدوا على منهج علمي ومفاهيم مجتمعية والتفرغ لقضايا وهموم المواطن، وبالنتيجة لم يكن عملهم يعتمد على رؤية مفاهيم الآخر، بل كانت رؤاهم للآخر من زوايا مفاهيمهم الضيقة لقراءته، لهذا لم تكن في سوريا رؤية سياسية اجتماعية واحدة لمفاهيم الديمقراطية. ومن جانب آخر؛ ساهمت الدول الخارجية؛ الإقليمية والدولية بإطالة عمر الأزمة السورية من خلال المحافظة على مصالحهم وفي مقدمتهم دولة الاحتلال التركي التي دعمت المرتزقة بعد إدخالهم إلى سوريا لإفشال المشروع الديمقراطي للشمال السوري.
الديمقراطية وحل الأزمة
حتى ندرك حجم المأساة في سوريا يجب أن ندرك بأن هذا المجتمع يمر بمرحلة تطور ديمقراطي، هذه المرحلة عصفت بالكثير من القيم والاخلاقيات المجتمعية التي كانت راسخة في ذهنيته منذ مئات السنين، بذات السياق كان جل اهتمام النظام هو الاحتفاظ بالسلطة من خلال تبني قضايا سياسية واعلامية والتمسك بالمركزية.
ويأتي استبعاد الاقليات وبقية المكونات من الكرد والسريان والأرمن والتركمان من المشاركة في القضايا الحيوية والهامة التي فجرت الأزمة، بالإضافة إلى غياب العدالة الاجتماعية كأحد أهم المطالب الجماهيرية، لأن النظام لم يكن يلبي احتياجات المواطن، لهذه الأسباب وغيرها خرجت الجموع ثائرة على النظام.
في حين تبقى القضايا المحورية ذات الاشكاليات المعقدة في الازمة السورية التي لعبت دوراً مهماً في استفحال أزمتها ما زالت رهن الاعتقال من قبل النظام وبعض فصائل المعارضة أيضاً، ومن تلك القضايا الملحة التصدي للسياسات المحورية التي تمارسها الدول الدخيلة، والتي حملت الجماهير عبئاً كبيراً وجهداً سياسياً قوياً لا يمكن التصدي له إلا من خلال تقارب ووحدة الرؤى المستقبلية لكل السوريين.
بقدر ما تتكاتف القوى الوطنية السورية؛ تتحقق تغييرات جذرية في تشكل البناء السياسي الصحيح، حينها يمكن مشاركة القوى الشعبية في صناعة القرار، ويبقى الخطاب الوطني الواحد وبثقافاته المتعددة السلاح القوي والأجدى في محاربة السياسات المحورية وتغيير ذهنية الفرد واستخلاصه من الزيف الثقافي الذي لحق به وترسخت فيه أثناء الأزمة.
لا خاتمة للأزمة السورية إن تعتمد على الحوار السوري ـ السوري، ولم تقترن بالعمل السياسي الوطني وبمشاركة كل القوى السياسية وبمختلف اطيافها القومية والطائفية والدينية، لأن الأنظمة الأحادية وحدها لا يمكن أن تسير سيراً صحيحاً بالوطن والمواطن نحو الاستقرار والتنمية.
التنوع الثقافي والعرقي في سوريا اضافات مهمة في بناء خطاب سياسي للتصدي لكل السياسات المحورية التي من خلالها تتدخل الدول في شؤون سوريا، هذا التدخل يضعف من وحدة المكونات وتفاعلها وتفرغها لبناء المؤسسات المجتمعية والتي هي النواة الأولى في بناء المجتمع السوري.
والكرد جزء هام من الشكل الاجتماعي والثقافي في سوريا، ولا ضير إن ساهم في صناعة القرار السوري، ولا يمكن تجاهل وتهميش هكذا مكون؛ كان وما يزال ينشر خطاباً وطنياً سورياً، بهذا الشكل يمكن أن تعمل الحكومة في المرحلة القادمة على مشاركة كل المكونات في الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تثبيت أسس المواطنة الحقيقية، والتي ستتبلور من خلال صياغة دستور سوري يشمل كل السوريين دون استثناء.