يصنّف فرضُ الإتاواتِ والضرائبِ ضمن نموذجِ “اقتصادِ الحرب” الذي برز خلال الأزمة السوريّة، إلا أنّ ما يقوم به المرتزقة في عفرين المحتلة تجاوز ذلك، إلى تنفيذِ أجندة الاحتلال التركيّ، بتمكينِ المستوطنين من البقاءِ المستدامِ على حسابِ المواطنين الكرد أهالي المنطقة الأصلاء، والعملية تنطوي على انتزاعٍ تدريجيّ للأملاك من الكرد ومنحها للمستوطنين ضمن إجراءات تسهيليّة باسم الإيجار، وكلّ اعتراضٍ من المواطنين الكرد يُقابل بممارسة القوة والقمع، والأحداث التي وقعت في قرية كاخرة كانت نموذج تلك السياسة وجاءت على خلفية إتاوات باهظة.
حقيقة أحداث كاخرة
فرض مرتزقة سليمان شاه/ العمشات إتاوة مقدارها 8 دولارات على كّل شجرة زيتون كبيرة أو صغيرة، وهو مقدار كبير، بالنسبة لموسم الزيتون الذي ينتج بالمعاومة (مرة في كل سنتين) وبذلك سيترتب على الأهالي آلاف الدولارات، عدا إتاوات على الزيت في المعاصر وضرائب مختلفة، علاوةً على تكاليف خدمة الحقول الباهظة وحراثة الأرض، فراجع عدد من الأهالي المقر العسكريّ للمرتزقة في القرية، وبالنتيجة احتجز عناصر المقر اثنين من الأهالي. مع انتشار خبر احتجاز مواطنين من القرية خرجت تظاهرة محدودة في القرية، ليبادر مرتزقة “العمشات” إلى قمعها بالعصي والهراوات، وإطلاق النار لترهيب الأهالي، فأُصيب عدد كبير من النساء والرجال والأطفال، ومنع المسلحون إسعاف المصابين وفرضوا طوقاً على القرية وأوقفوا شبكة الإنترنت وحضرت تعزيزات عسكرية من “العمشات” وأخرى من الشركاء في الشرطة العسكرية يقودهم المدعو أحمد علولو/ أبو عبدو مسؤول التعذيب في السجون.
عمد المرتزقة منذ البداية إلى عزل القرية وتطويقها، وفرضوا حظر التجول على القرية عبر مكبرات المسجد، وقطعوا شبكة الإنترنت ومنعوا تواصل الأهالي مع العالم الخارجي. وروّجوا لكذبة مشاجرة بين عائلتين الأولى كرديّة من القرية والثانية مستوطنة، كما أجبروا مختار القرية المدعو أحمد عبد الرحمن قاسم، المعروف بتعاونه مع سلطات الاحتلال التركيّ على نشر مقطع صوتيّ عبر تطبيق الواتس آب يُنفي جملة الأحداث ويؤكد وجود الشرطة العسكرية في القرية، دون توضيح سبب وجودها، رغم تأكيده أنّ الأوضاع طبيعية جداً.. فيما تم اقتحام منزل المختار السابق فائق مصطفى والتعدي على محتويات بالكسر والتحطيم.
تم الترويج لمقتل نساء في القرية، بقصد المبالغة في الخبر الذي سرعان ما يكشف أنه مزيف فتسقط مصداقية جملة الأخبار عن الاعتداء والضرب وتأكيداً لهذا الغرض نشرت مرتزقة العمشات أيضاً مقطعين مصوّرين من القرية، الأول لزيارة المدعو “علولو” مساءً منزل المسنة نازلية شيخ خليل والتي تم الترويج لاستشهادها، لأجل الطعن في مصداقية كل الأخبار الواردة من القرية.
المقطع الثاني كان مسرحية هزيلة في مكتب أحد متزعمي المرتزقة، ويزعم فيه أنّه قام بجهود الوساطة بين عائلتين متشاجرتين كردية ومستوطنة، بسبب خلاف أطفال، ويتم بعجالة التعريف بالحاضرين، فيما تتم المصالحة خلال زمن قصير جداً، لأنّ كلّ شيء تم الإعداد له مسبقاً، وقام الحاضرون بمصافحة بعضهم فور تلقيهم الإيعاز بذلك، دون أن يسبق ذلك أيّ حديث متبادل بينهما، لتبقى رواية المتحدث مدير الجلسة وحيدة. نشر “العمشات” عدداً كبيراً من الصور التي يظهر فيها مسلحوها يوزعون الحلويات على حواجز الطرق العامة بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، وبذلك أرادت لفت النظر إلى مسألة أخرى وتجميل صورتها. لكنّ؛ الصور المتداولة للنساء اللواتي أُصِبن في الاعتداء الوحشي لمرتزقة “العمشات” تسربت إلى مواقع الإعلام وصفحات التواصل الافتراضي، إضافةً إلى آثار التخريب في منزل ومضافة مختار القرية السابق “فائق مصطفى”، والتي تفنّد رواية مرتزقة “العمشات”.
مسرحية للتغطيّة على الاعتداء الوحشيّ
أصدر حزب الوحـدة الديمقراطي الكرديّ في سوريا (يكيتي) بياناً الاثنين 16/9/2024، ذكر فيه أنّ مرتزقة “سليمان شاه ـ العمشات” والتي يتزعمها المدعو “محمد الجاسم/ أبو عمشة” قاموا بهجومٍ شرس على تظاهرةٍ نسائية، بالضرب بالعصي والهراوات وإطلاق الرصاص الحي والإهانات، وتطويق قرية “كاخره” ـ ماباتا/ معبطلي وقطع شبكة الإنترنت عنها، ما أدى لإصابة نحو عشرين شخصاً من الأهالي بجروحٍ متفاوتة، بينهم أطفال. وذكر البيان أسماء من عُرِفوا من المصابين وهم:
زمزم سليمان/علمامه (٦٠ سنة)، صديقه حنان (40 سنة)، نجاح جابو (45 سنة)، خليل عبدو حسو (10 سنوات)، محمد مصطفى/حمودي مختار (31 سنة)، حسن رشيد حنان (52 سنة)، فائق مصطفى (80 سنة)، مصطفى رشيد حنان (9 سنوات)، محمد مصطفى مصطفى (15 سنة)، خالد حمرشو (45 سنة)، حنيفة خليل عبو (80 سنة)، جيهان عيسو محمد عيسو (40 سنة)، نجاح محمد علوش (35 سنة)، ومنع “المرتزقة نقل الجرحى إلى عفرين أو أي بلدة مجاورة لتلقي العلاج، كما داهمت منزل المختار السابق “فائق مصطفى” وتسببت بأضرار ماديّة.
خرجت التظاهرة بعدما راجع بعض الرجال مقرّ “العمشات” وأبدوا اعتراضهم على إتاوة جديدة فرضتها على القرية، وتم اعتقال مواطنين اثنين منهم، هما: حسن رشيد ايمو (48 سنة)، إدريس علي عبو (45 سنة)، وأفرج عنهما آخر الليل.
وذكر البيان “أنّ الأهالي التزموا بيوتهم ولا زالوا يخشون الخروج منها؛ فيما انتشرت عناصر “الشرطة العسكرية” في القرية للتعاون مع “العمشات” في السيطرة عليها، وعاد مختار القرية الحالي والمتعاون مع الاحتلال، صباح اليوم، ليبلغ الأهالي عبر الواتس آب بالإسراع إلى دفع الإتاوات المفروضة عليهم”.
جاءت تلك الأحداث عقب رفض أهالي “كاخره” الإتاوة الجديدة، ومقدارها 8 دولارات أمريكي عن كلّ شجرة زيتون، صغيرةً أم كبيرة، حامل بالثمار أو لا، من ممتلكات المواطنين الغائبين والتي يديرها أقرباؤهم، وتصل الإتاوة المفروضة على كلّ عائلة إلى آلاف الدولارات، ليس بالإمكان دفعها لعدم توفر المال وإنتاج الزيتون، وهي ظلم وانتهاك جسيم. وكانت العمشات قد جمعت من آخر إتاوة مفروضة على قرية كاخرة مبلغ 17 ألف دولار أمريكيّ الشهر الماضي، وذلك بواقع مائة دولار على 170 عائلة كرديّة متبقية في القرية.
وكانت “العمشات” قد فرضت خلال شهري تموز وآب الماضيين إتاوات بقوة السّلاح على الكُـرد أهالي كامل ناحية شيه/ شيخ الحديد وبلدة ماباتا/ معبطلي وقرى تابعة لها وبعض قرى ناحية جنديرس، التي تسيطر عليها، وحصّلت منهم نحو 800 ألف دولار أمريكي، إضافةً لنحو 27 مليون دولار خلال موسم الزيتون الماضي.
مخطط إخلاء المنطقة
على خلفية الأحداث التي وقعت في قرية كاخره الكرديّة، نقلت الصحيفة الإنجيليّةEVANGELISCHE ZEITUNG الإثنين 16/9/2024، الصادرة في الفاتيكان عن الدكتور كمال سيدو (مستشار لشؤون الشرق الأوسط في جمعية الدفاع عن الشعوب المهددة STP في غوتنغن): إنّه “في بلدة كاخره الكردية السوريّة في منطقة عفرين، مثلاً، كان الكرد فقط يعيشون قبل الاحتلال التركي عام 2018. ومنذ ذلك الحين، تم طرد حوالي ثلثي الكرد البالغ عددهم حوالي 10 آلاف أو أجبروا على الفرار. واستوطن الإسلاميون مكانهم. وتهدف تركيا إلى “جعل المناطق المحتلة خالية من الكرد والإيزيديين والعلويين والمسيحيين”.
وشدد سيدو على أنه طالما استمر الاحتلال التركيّ، فإنّ عودة المهجّرين إلى كاخره أمر غير وارد. وبما أن تعسف دولة الاحتلال التركي ومرتزقتها مستمر بلا هوادة، فالكرد الباقون في المنطقة يفكرون أيضاً في الفرار.
نظام الوكالات
بالعودة لنظام الوكالات الذي فرضته ما تسمّى المجالس المحلية على أبناء عفرين الأصليين، وكان هدفها في بادئ الأمر عمل إحصاء للممتلكات وحصر أعداد أبناء عفرين المهجرين قسراً لغايات استخباراتيّة خاصة بدولة الاحتلال، إلا أنّ ذلك مكّن المواطنين الباقين من إدارة أملاك أقربائهم المهجّرين من الدرجة الأولى، والتي تشمل حقول الزيتون والبساتين والأراضي الزراعيّة، وعادةً ما كان يحدث هذا النوع بالتراضي بين الطرفين، باستثناء المنازل والشقق التي كان يتم الاستيلاء على بعضها بحجة إسكان المستوطنين القادمين إلى عفرين فيها، وبموجب نظام الوكالات يدفع أهالي عفرين مبالغ ماليّة للمجالس كشكل من الضرائب بحسب مساحة الممتلكات والعقارات، ناهيك عما كان يفرض عليهم من إتاوات لصالح مجموعات المرتزقة المسيطرة في كل منطقة، والتي تكون أعلى ن الضرائب المفروضة على الأهالي الباقين.
مع مطلع العام 2024، أصدرت مرتزقة سليمان شاه/ العمشات والحمزات في المناطق التي تسيطران عليها، قراراً استثنائيّاً يُلغي نظام الوكالات، وبالتالي مصادرة أملاك المهجرين والغائبين التي كانت تتم إدارتها من قبل الأهالي، وفرضت عليهم شرط دفع بدل الإيجار أو ضمان الموسم للمكاتب الاقتصادية التابعة لمجموعات المرتزقة، أي أنّها اُعتبرت بحكم الأملاك المصادرة، ويمكن لتلك المجموعات توزيعها على المستوطنين، مقابل بد إيجار رمزي.
فقد كامل أملاكه
شبكة عفرين بوست نشرت تقريراً حول النتائج المرتبة على الإتاوات وقرار إلغاء الوكالات واعتبرته تثبيتاً للاحتلال والتغيير الديمغرافي، وذكرت مثال المواطن “محمد علي” من أهالي قرية عيندارا والمقيم حالياً في الشهباء منذ عام 2018، والذي وكَّل أولاد شقيقه بإدارة أملاكه (1500 شجرة مثمرة موزعة على 4 هكتارات من الأراضي وعدد من حقول الزيتون)، يقول: “كان همي الوحيد في ظل النزوح الحفاظ على أن تبقى أشجاري التي زرعتها بيدي خضراء، والاستفادة الماديّة غير مجدية في ظل الاحتلال، مصاريف الإنتاج عالية والمردود قليل، والضرائب والإتاوات في تزايد، لذا كنت أوصي أولاد أخي برعاية الأشجار والحصول على الإنتاج لأنفسهم”.
مع بداية هذا العام وضعت مرتزقة “الحمزات” التي تسيطر على المناطق الواقعة بين عفرين وصولاً إلى باسوطة والغزاوية، يدها على تلك الأشجار، ومنعت أولاد شقيقه من إدارتها، ولتبرر ذلك، أصدر المكتب الاقتصادي الذي يتخذ من بلدة باسوطة مركزاً له قراراً برفض كافة أشكال الوكالات بحجة أنها صادرة من حكومة دمشق، رغم أن هذه الوكالات تم تصديقها من المجالس المحلي التي شكلها الاحتلال التركي بعد احتلال عفرين بفترة، وبذلك أصبحت المجموعات المرتزقة المتحكم الأساسيّ بكل شيء، ورغم شكوى قدمها بعض مخاتير القرى للمجالس المحلية، إلا أنّها لم تتخذ أي إجراء.
أضرّ إلغاء نظام الوكالات بالأهالي كثيراً ماليّاً واجتماعيّاً، فغالبية الأهالي بدأوا مع بداية فصل الشتاء بالتحضير للموسم الزراعي الجديد وتمثلت بعمليات الفلاحة والتسميد الشتوي ورش المبيدات الوقائية، علاوةً على تغيير الملكيات والاستيلاء على تلك الممتلكات بشكلٍ كامل، واستمرار الوضع والاحتلال في عفرين مدة أطول، يعني تثبيت التغيير الديمغرافيّ إذ يمكّن المستوطنين من التملك.
سلبوا أملاكها أمام عينها
شملت هذه القرارات ناحية شيه/ شيخ الحديد وجندريسه بشكلٍ كامل وأجزاء من ناحية ماباتا/ معبطلي وراجو وأجزاء من ناحية شيروا، وهذه المناطق التي تسيطر عليها مرتزقة “القوة المشتركة (الحمزات والعمشات)”. ففي قرية “قوبيه” التابعة لراجو، هناك عدة حالات استيلاء، السيدة فاطمة عشونة، ذات الثمانين عاماً، والتي تقطن في قريتها برفقة ولدها زكريا. وذكر مصدر في القرية أنّ مرتزقة الحمزات فرضوا على المواطنة فاطمة التنازل عن 200 شجرة زيتون لصالحها، بحجة أنّ هذه الأملاك تعود لأبنائها المهجرين خارج عفرين.
مرتزقة “المنتصر بالله” تُسيطر على قرية “قوبيه”، ولكن جزءاً من أملاك فاطمة يقع ضمن حدود قرية “بربنه” المجاورة والتي تسيطر عليها “الحمزات”، وبالفعل استولت على 200 شجرة عائدة للمواطنة فاطمة وحرمتها من موسم هذا العام.
في ناحية شيه أيضاً، يقول المواطن “علي الأحمد” اسم مستعار لمواطن “كنت أشرف وأعتني بخمسمائة شجرة زيتون تعود ملكية 250 منها لشقيقين، قبل خمس سنوات وتم تثبيت ذلك في المكتب الاقتصادي التابع للعمشات وكنت أدفع ما يترتب عليه من ضرائب وإتاوات بشكلٍ دوري”.
لكن مرتزقة “العمشات” قرروا كف يده عن إدارة أملاك أشقائه، بذريعة أنّها أملاك لأشخاص يعملون مع الإدارة الذاتية، وهم خارج عفرين، ودفع “علي” ما مقداره 900 دولار أمريكي كتكاليف للعناية بهذه الأشجار منذ فصل الشتاء إلى اليوم، وبات اليوم مضطراً لترك العناية بأملاك أشقائه حفاظاً على حياته وممتلكاته، ويقول “لا يمكنني الرفض، وستكون العاقبة علينا وخيمة إذا رفضنا، وربما أفقد كل شيء وأضطر للهجرة القسريّة مثل أشقائي”.
أسباب سياسيّة ومادية
قرار إلغاء الوكالات كغيره من القرارات التي يفرضها المرتزقة لم يأتِ من فراغ بلا شك، بل تنفيذ لأجندات تركيا الاحتلاليّة وتثبيت للتغيير الديمغرافيّ في عفرين، والملاحظ أنّ بدل الإيجار للأملاك المستولى عليها رمزيّ بالنسبة للمستوطنين، في حين أنّه يُقدّر بعشرة أضعاف لذوي المهجّرين، وهذا إجراء يهدف لإحداث فرق اقتصاديّ واضح بين المستوطنين وأبناء عفرين الأصلاء، وفي المستقبل القريب سيكون هذا الفرق واضحاً ويسمح للمستوطنين بالاستملاك والبقاء الطويل الأمد في عفرين، ما يخدم مباشرةً خطة تثبيت التغيير الديمغرافي الذي تسعى تركيا له منذ اليوم الأول لاحتلالها عفرين.
كما يسعى المرتزقة لتأمين مصادر للمال مع تغير مواقف الدول العربيّة الممولة وتوقفها عن دعم ما تسمّى المعارضة السوريّة، ومع انخراط أنقرة في المسار التصالحيّ مع دمشق يعمل قادة المرتزقة على سلب الأهالي أموالهم وتحويل تلك الأموال إلى تركيا وبناء المشاريع الاقتصاديّة هناك، وتقدّر الأرصدة الماليّة لقادة المرتزقة الموالية لتركيا بملايين الدولارات، وهي تدعم الاقتصاد التركي مباشرةً.