سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

إبادة الأرمن هدف عثماني تكمله دولة الاحتلال التركي

 دجوار أحمد آغا_

استذكاراً للمجازر، التي ارتكبت بحق الشعب الأرمني، تعد دولة الاحتلال التركي، حفيدة الدولة العثمانية الساعية إلى تحقيق هدفها بإبادة هذا الشعب العريق بتاريخه وحضارته في منطقة الشرق الأوسط. 
يعد الشرق الأوسط مهد البشرية وموطن أقدم الحضارات في العالم، كما إن انطلاقة الأديان التوحيدية السماوية تمت من هناك. وسفينة نبي الله نوح بعد الطوفان الأكبر، استوت هناك على جبل الجودي في منطقة شرناخ بباكور كردستان. فشعوب الشرق الأوسط الأصلاء، شعوب عريقة، ذات حضارات عظيمة، ونخص بالذكر (الكرد، العرب، الأرمن، الفرس، الفراعنة، السريان، الأشور والكلدان، وغيرهم من الشعوب الأصيلة في المنطقة).
لم تسلم تلك الشعوب من مجازر ومؤامرات حيكت لإفراغ تلك المنطقة من الأصلاء، واحتلال الشرق الأوسط الغني بثرواته، وبالتالي تغيير تاريخ الحضارات في تلك المنطقة، وإبادة شعوبها.
سوف نتناول في هذه المقالة تاريخ الشعب الأرمني والمآسي التي تعرض لها على يد السلاجقة العثمانيين الدخلاء على المنطقة وأحفادهم الأتراك، الذين ارتكبوا أفظع وأبشع المجازر في تاريخ البشرية بحق الشعب الأرمني العريق من أجل إبادته من الوجود كليّاً.
تاريخ الأرمن العريق 
يعد الأرمن واحداً من أقدم وأعرق شعوب الشرق الأوسط، حيث تقع بلاد الأرمن، أرمينيا أو أرمنستان، أو كما يحب أن يسميها الأرمن “هايستان”، إلى الشمال من منابع نهري الفرات ودجلة، أي أنها على الحدود الشمالية لكردستان. يعود تاريخ الأرمن في المنطقة إلى ثلاثة آلاف عام، بينما أُسِّست أول دولة أرمنية 600 قبل الميلاد. وتعتبر أرمينيا أول دولة اتّخذت المسيحية ديانة رسمية.
في الفترة الممتدة بين 95 ـ 55 قبل الميلاد، وفي عهد الملك “ديكران الكبير” من الأسرة الأرداشيسية، أصبحت أرمينيا من أقوى دول المنطقة، حيث وصلت سيطرتها إلى شواطئ البحار الثلاث (البحر الأسود، بحر قزوين، البحر الأبيض المتوسط). خلال هذه الفترة هزمت أرمينيا فارس والممالك التابعة لها.
 العلاقة بين الكرد والأرمن 
يتشابه تاريخ الأرمن والكرد والأحداث، التي مرت على الشعبين من عدة وجوه. لم يستمر الاستقلال الأرمني أيضاً أمدا طويلاً. ومنذ أن خسر سيادته على وطنه، وقع هو الآخر في قبضة المحتلين الأجانب، وأصبحت بلاده جزءاً من الإمبراطورية الرومانية.
تعود العلاقات الكردية الأرمنية إلى عهد قديم، عهد الميديين، لأنهم شعبان يعيشان في وطنين متجاورين. لكن؛ هذه العلاقات لم تكن دوماً ودّية، كانت هناك عوامل تفرق بين الشعبين لعل أبرزها الدين، بالإضافة إلى تقدّم الأرمن قياساً إلى الكرد. الأرمن كانوا أصحاب صناعة وحرف، وأموال وكان الكرد يحتاجون إليهم من أجل زراعة أراضيهم. كما أن الحركة القومية الأرمنية والكردية على حد سواء، لعبت دوراً سلبياً في العلاقات بين الشعبين من خلال غلاة الطرفين. بينما كان هناك عامل آخر مهم يُقرّب بين الشعبين، وهو أن سائر الكادحين من أبناء الشعبين، يدفعون الضرائب إلى الخزينة (العثمانية).
خلفية تأسيس الخيالة الحميدية 
كان العثمانيون ينظرون إلى الأرمن نظرة ازدراء واحتقار، ويعتبرونهم كفاراً ويجب قتلهم، وعلى هذا الأساس، تم تأسيس الفرسان أو الخيالة الحميدية سنة 1890 في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1842 ـ 1918.  وقد قُدِّر عدد الأفواج الحميدية بـ 40 فوجًا يعد سنة من تشكيلها (1891م)، وازدادت فيما بعد حتى وصلت إلى 30 لواءً، وكان الفوج يتكون من 180 فارساً، بحد أدنى، وإلى 720 فارساً بحد أعلى، أما اللواء فكان يتكون من 800 فارس بحد أدنى، وإلى 1200 فارس بحد أقصى.
ارتكبت هذه الأفواج والألوية المجازر بترتيب وموافقة وتخطيط عبد الحميد الثاني، فكان العثمانيون يرغبون في ارتكاب المجازر البشعة، لكنهم لم يريدوا أبداً أن تتجه أصابع الاتهام إليهم، فكانت فكرة الأفواج الكردية حلاً مرضياً لكي ينفذ أحدهم الأعمال السيئة، كمواجهة الحراك الأرمني، الذي رغب في التخلص من الاحتلال العثماني البغيض، وقد عمَّ عدداً كبيراَ من قرى ومدن شرق الأناضول، ولعدم الرغبة في إظهار قمع الثورة الأرمينية، وما يستدعيه ذلك من رفض وإدانة أممية أوروبيّة، تقرر الاعتماد على الكتائب الحميديّة لتنفيذ مهمّة إخضاع الثوّار الأرمن وقمعهم، فكانت النتيجة وقوع ما عرف بالمجازر الحميدية.
مذابح وإبادة عرقية 
البداية الفعلية للمذابح العثمانية بحق الشعب الأرمني كانت خلال شهري آب وأيلول 1894 في منطقة “ساسون” حيث بدأ الجنود الإنكشاريون المرتزقة وبعض العصاة، والأشقياء بالهجوم على القرى الأرمنية، وتم خلال فترة قصيرة من تدمير ما لا يقل عن 40 قرية أرمنية وقتل أكثر من عشرة آلاف شخص أرمني. لم يفرقوا بين طفل وامرأة ورجل مسن، قتلوا الجميع وأحرقوا القرى بعد نهبها.
استمرت المذابح بحق الشعب الأرمني في مختلف مناطق تواجدهم وراح ضحية هذه المذبحة الأولى التي استمرت ثلاث سنوات ما لا يقل عن 150 ألف مواطن أرمني. كما جرت مذبحة ثانية في العام 1909 وراح ضحيتها 30 ألف أرمني.
دور الكرد في المذابح الأرمنية 
لدى الحديث عن دور الكرد في المذابح الأرمنية، لا بد من ذكر الوجهين. الوجه الأول الدور الكردي في قتل الأرمن، والوجه الثاني هو الدور الكردي في إنقاذ الأرمن. الدولة العثمانية استغلت الشعور الديني لدى الكرد البسطاء وأخبرتهم بأن الأرمن كفار، وأن قتلهم حلال، وهو واجب ديني عليهم. البعض من القبائل الكردية صدقت الرواية العثمانية والتركية لاحقاً، وشاركت إلى حد ما في قتل الأرمن ليس من أجل شيء، فقط لأنهم أرمن أي “كفار” حسب رواية الأتراك لهم، وهذا منبعه التعصب الديني الأعمى.
إلا أنه وبشهادة مؤرخين أرمن أنفسهم، فقد كان لمعظم القبائل والعشائر الكردية الدور الأبرز في إنقاذ البقية الباقية من الأرمن من الإبادة العرقية التامة، التي أقامها لهم العثمانيون والأتراك فيما بعد.
يقول المؤرخ الأرمني “هنري ريغس” 1875 ـ 1943 في كتابه المعنون (أيام من التراجيديا في أرمينيا): “الكرد قد قاموا بدور حيوي في إنقاذ الأرمن، أكثر مما فعلته البعثات التبشيرية الأمريكية”. كما أن الطالب الأرمني (سوغومون تهليريان) الذي قام في 15 آذار 1921 باغتيال المجرم والسفاح طلعت باشا في العاصمة الألمانية برلين، كان قد بقي لمدة 20 يوماً لدى عائلة كردية، اهتمت به وأنقذته من المذابح سنة 1915 بأعجوبة. وقد ذكر المستشرق الروسي الشهير ميخائيل لازاريف 1930 ـ 2010 هذا الأمر في كتابه “مسألة إبادة الأرمن أمام المحكمة”.
التهجير القسري وعمليات الذبح 
بدأت هذه المأساة الفظيعة بتاريخ 24 نيسان 1915، حيث قُتل خلالها ما لا يقل عن مليون ونصف أرمني. استغلت الدولة العثمانية بدء الحرب العالمية الأولى 1914 ودخول روسيا الحرب ضدها، الأمر الذي دفع بها إلى توجيه قطعانها العسكرية نحو الشرق. الوضع كان متوتراً وغير مستقر خاصة مع تقدم القوات الروسية، ومعها حدثت انتفاضة أرمنية ضد العثمانيين. وصلت القوات الروسية إلى مدينة وان في باكور كردستان. ومن أجل حل المسألة الأرمنية نهائياً، وإنهاء التدخلات الخارجية في الشؤون التركية والحفاظ على ما تبقى من الأراضي، تم اقتراح تأسيس دولة تركية نقية الدماء والتخلص من بقية الشعوب والأقوام.
استغل العثمانيون انشغال العالم بالحرب العالمية الأولى وبدؤوا بتنفيذ مخططهم من خلال إصدار قرار التهجير أو الترحيل بحق المواطنين الأرمن من أماكن سكنهم. ومن أجل تنفيذ هذا الأمر، أفرجت عن سائر المساجين من العصاة وقطاعين الطرق والمجرمين المتوحشين ونظمتهم في أفواج ترافق الأرمن المهجرين قسريا إلى مناطق حلب وصحراء دير الزور. مئات الآلاف من الأرمن يسيرون على الأقدام حفاة، عراة، دون شراب أو طعام. كان من يرافق القافلة يقوم بنهبهم واغتصاب الفتيات والنساء وبقر بطونهم وقتل كل من لا يقدر على السير.
وثق هذه المأساة الإنسانية الكاتب والسياسي السوري فايز الغصين 1883 ـ 1968 في كتابه تحت عنوان (المذابح في أرمينيا) المطبوع سنة 1917 ففي الصفحة 28 من كتابه المذكور يقول: “أما في موش، فقسم من الأرمن أُتلف بالمتابن والقسم الأعظم أُتلف رمياً بالرصاص وطعناً بالسكاكين. وكانت الحكومة تستأجر قصابين، تعطي كل واحد منهم ليرة عثمانية يومياً. وقد قصّ عليّ أحد الأطباء ويسمى عزيز بك أنه كان في قضاء مرزيفون من أعمال ولاية سيواس، وعلم أن قافلة من الأرمن سوف تُرسل للقتل، فذهب إلى القائم مقام وقال له أرجو أن تأذن لي لأرى هذه العملية التشريحية بأم عيني. فرخص لي وذهبت، فوجدت أربعة قصابين، بيد كل واحد منهم مدية طويلة، وأفراد الدرك يفرقون كل عشرة من الأرمن على حدة، ويرسلون الواحد تلو الآخر إلى القصابين، فيقول القصاب للأرمني: مد رقبتك، فيمدها، فيذبحه ذبح الغنم.
وكان يتعجب هذا الطبيب من الأرمن على الموت دون أن يتكلموا بكلمة أو يُظهروا خوفاً. وكان أفراد الدرك يربطون النساء والأطفال ويلقون بهم من مكان عال جداً إلى الأسفل، فلا يصلون الأرض إلا قطعاً وإرباً.
الاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية 
هناك أكثر من ثلاثين دولة حول العالم، قد اعترفت بأن ما قامت به الدولة العثمانية ومن ثم تركيا بحق الشعب الأرمني هي إبادة عرقية، أي أنها اعترفت بـ “الإبادة الأرمنية” من أبرز هذه الدول (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، لتوانيا، بلغاريا، هولندا، سويسرا، اليونان، الأرجنتين، روسيا، أوروغواي، سلوفاكيا، النمسا). بينما على الصعيد العربي فقد كان لبنان هو السبّاق إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية للشعب الأرمني، تلاه سوريا ثم مصر.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، صوّت الكونغرس معترفاً بأن عمليات القتل الجماعي للأرمن ترقى للإبادة الجماعية تحت الرقم 150 الصادر عام 2019. وفي العام 2021 ويوم 24 نيسان ذكرى المذابح الأرمنية اعترف الرئيس الأمريكي جو بايدن بالإبادة الأرمنية عبر بيان رسمي صادر عن البيت الأبيض الأمريكي. وحدها تركيا لم تعترف بهذه الإبادة منذ مجيء مصطفى كمال (أتاتورك) وتأسيس الجمهورية التركية سنة 1923، على الرغم من اعتراف تركيا قبل ذلك بالإبادة الجماعية في الفترة الواقعة بين 1919 ـ 1920.
مساعي الإبادة لليوم
لم تتوقف مساعي دولة الاحتلال التركي بإبادة الأرمن في تلك الفترات، بل استمرت حتى في السنوات الأخيرة من خلال الانخراط في الحرب الدائرة بين أذربيجان وأرمينيا، اللتين كانتا تحاربان للسيطرة على ناغورنو كارباخ منذ أواخر ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي. وزاد التصعيد عندما ضرب أذربيجان حصار فعال على طريق حيوي يؤدي إلى إقليم كاراباخ، في كانون الثاني 2022، وكان هذا الطريق ممر لانشين الطريق الوحيد الذي يربط جمهورية أرمينيا بإقليم كاراباخ.
وقتذاك وجه رئيس دولة الاحتلال التركي انتقاداته للجانب الأرمني ودعمه لأذربيجان، مدعياً بأن أرمينيا هي أكبر تهديد للسلام والاستقرار في المنطقة، ووصف موقف أرمينيا على أنه عدواني، وأكبر عقبة أمام السلام في القوقاز، وطالبها بالتراجع.
قد وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادات للجانب الأرميني، وقال: إن أرمينيا هي أكبر تهديد للسلام والاستقرار في المنطقة. وقدمت تركيا طائرات بدون طيار تركية الصنع من طراز بيرقدار لتلعب دوراً حيوياً في محاربة أرمينيا وبهذا الدعم حققت مكاسب لأذربيجان
كما أرسلت دولة الاحتلال التركي الآلاف من المرتزقة السوريين مما يسمون بـ “الجيش الوطني السوري” للقتال ضد الأرمن، وتأكيداً على ذلك، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 28 مرتزقاً سورياً ممن أرسلتهم تركيا إلى أذربيجان، في الفترة الأولى من الحرب بين الطرفين.
وبذلك لطخت يد العثمانية والتركية بدماء الأرمنيين بهدف إبادتهم كشعب أصيل في منطقة الشرق الأوسط.