رفيق إبراهيم
بعد مرور أكثر من شهرين من تهديدات تركية جديدة بشن هجوم جديد على مدن وأراضي جديدة في شمال وشرق سوريا، التهديد التركي قوبل بالرفض الشعبي، والداخلي، والدولي لقيام تركيا بأي هجوم، بدا من التصريحات الأخيرة، وبشكل غير مباشر، أن الهجوم التركي بات من الماضي، ومع ذلك لم تتوقف المواقف الواضحة، والمعادية للإدارة الذاتية، وقوات سوريا الديمقراطية من قبل أنقرة، والسعي لإيجاد بدائل للحصول على ما تريده عبر تلك البدائل.
ادعاءات كاذبة لاحتلال مناطق جديدة
الادعاءات، التي تتبجح بها تركيا في تهديد مناطق شمال وشرق سوريا، هي ذاتها التي تتخذها قبل كل هجوم، بحجة حماية أمنها القومي وهذه الحجة لا أساس لها من الصحة، إنما تركيا تتخذها ذريعة لاحتلال مناطق جديدة في سوريا، والحصول على المزيد من الامتيازات التي ستساوم الآخرين من خلالها.
وعلى ما يبدو أن الرفض الدولي لأي هجوم تركي جديد، كان حاسماً وواضحاً، فأمريكا والتحالف الدولي كان قرارهما واضحا، برفض أي هجوم على شمال وشرق سوريا، وأيضاً الروس والإيرانيون، وقفوا بوجه أي تحرك تركي من شأنه إعادة الأمور في سوريا إلى نقطة البداية، وطموح تركيا في هجوم جديد داخل الأراضي السورية بات ضئيلاً، وفرص الحصول على الضوء الأخضر أصبحت قليلة جداً، وهذا ما يجعل تركيا تفكر قبل الإقدام على أية حماقة ألف مرة، وتبعدها عن خلق التوترات، والمشاكل في المنطقة شيئاً فشيئاً، وعليها أن تعيد حساباتها الخاطئة هذه المرة وبكل دقة، كي لا تخسر أكثر مما خسرته حتى الآن، وعليها أن تدرك بأن شعوب المنطقة دفعت الغالي، والنفيس من أجل القضاء على داعش، والإرهاب ليعيشوا بأمان وسلام.
النوايا التركية بتواجدها على الأرض السورية، والعراقية، تكشفت ولم تعد خافية على أحد، وعندما يصرح وزير الخارجية التركي، بأن “بلاده على استعداد تام لدعم حكومة دمشق في مواجهة وحدات حماية الشعب الكردية وقوات سوريا الديمقراطية”، يثير عدداً من الأسئلة للنوايا الحقيقية حول دور تركيا، وتدخلها بشكل مباشر في الأزمة السورية، وما يثير الاستغراب كيف بتركيا أن تدعي بأنها تقدم الدعم لما تسمى المعارضة السورية، وما يسمى الجيش الوطني المعارض للحكومة السورية من جهة، ومن جهة أخرى تقول، بأنها مستعدة لتقديم الدعم لدمشق، وهذا تناقض صريح يفهم منه بأنها من أجل إفشال تجربة الإدارة الذاتية، ستتحالف مع حكومة دمشق من أجل تورطها بمشاكل قد تكون بغنى عنها، الإدارة الذاتية أعلنت سابقا، ولاحقاً بأنها مستعدة لعقد جولات حوارية مع دمشق، إلا أن الحكومة السورية دائماً ما كانت تغلق الباب أمام الحوار السلمي للوصول إلى حلول للأزمة السورية المعقدة.
تحريض دمشق والرغبة المباشرة بالتقارب
التصريح التركي الأخير يمكننا تقسيمه إلى شقين الأول: هو التحريض المباشر لحكومة دمشق لمواجهة الإدارة الذاتية، وقوات سوريا الديمقراطية، وخلق فتنة وصراع جديد ستستفيد منه هي في النهاية.
أما الشق الآخر، إرسال رسائل لرأس الحكومة السورية، ورئيسها بشار الأسد، بأن تركيا باتت مستعدة للحوار والانفتاح مع دمشق، ومن غير شروط مسبقة.
ولكن تركيا لن تقدم على هذه الخطوة، إلا أن يكون هناك مقابل، والمقابل ضرب الإدارة الذاتية وقواتها العسكرية، وبكافة الأساليب الممكنة، ولكن هل ستستجيب حكومة دمشق على هذا الطلب، الذي لا يمكن تحقيقه؟ ولأسباب عدة منها: أن حكومة دمشق وقواتها باتت منهكة من الحرب الدائرة على الأرض السورية منذ أحد عشر عاماَ، وأنقرة تدرك أن لا سلطة حقيقية لدمشق على معظم الأراضي السورية، وأيضاً لا تستطيع التحرك من دون الإذن من إيران في مناطق معينة، ومن روسيا في مناطق أخرى، وتركيا تدرك بأن الجانب الروسي وبخاصة في هذه الفترة، لن يسمح لها بالتوسع في الجغرافيا السورية، وأيضا هناك سبب هام ففي شمال وشرق سوريا هناك قوة لا يستهان بها، وهي التي حاربت الإرهاب بكل تصنيفاته على مدى أكثر من ثماني سنوات، واستطاعت تحقيق النصر تلو النصر، وباتت لديها خبرة قتالية عالية، تجعل تركيا وحكومة دمشق تفكران ملياً قبل الإقدام على أي خطوة قد تكون خاسرة، وأيضاً هناك تواجد للقوات الأمريكية، وقوات التحالف الدولي في شمال وشرق سوريا، وهي ترفض التحركات العسكرية من جانب روسيا، أو تركيا، أو قوات الحكومة السورية، بخاصة وأن أي هجوم، أو تحرك عسكري سيسمح بعودة الأنشطة الإرهابية المزعزعة لأمن المنطقة، والعالم لداعش.
ومع هذه التعقيدات كلها، أنقرة ستحاول إحداث البلبلة، والفتن قدر المستطاع، للحلول دون التوافق بين الإدارة الذاتية، وحكومة دمشق، والوصول بالتالي لحل الأزمة السورية بشكل عام، لذلك احتمالات التقارب بين أنقرة ودمشق واردة، وبخاصة أن هناك تواصلاً وتوافقاً، في المجال الاستخباراتي، وحدث لقاءات عدة بين الجانبين، حيث اعترف الطرفان بوجود هذا التعاون، وقد يتطور في المراحل المقبلة على المستوى السياسي، وحتى الاقتصادي أيضاً، والكل يجمع بأن السياسية التركية، قد تغيرت تجاه دمشق بشكل كبير، ما قد يؤثر على شكل العلاقة مع دمشق في الأشهر القليلة المقبلة.
ونحن جميعاً نعلم، أن هناك وساطة إيرانية تحاول فتح العلاقات وتطبيعها بين تركيا وسوريا، حيث تحاول دولة الاحتلال التركي تغير العلاقات في هذه الفترة مع دول الجوار أولاً، وإعادتها إلى طبيعتها، لأنها بحاجة الآن أكثر من أي وقت آخر لتصفير مشاكها، فانتخاباتها على الأبواب، ولم يعد هناك المزيد من الوقت للتفكير بعمل ما من شأنه إحداث معجزة، وإعادة الأمور إلى نصابها، والخطوات التي اتبعتها تركيا مع السعودية، والامارات، ومصر، وإسرائيل، كلها تؤكد على أن تركيا ستتنازل كثيراً، لإعادة علاقاتها مع خصومها، وقد تكون دمشق هي الوجهة القادمة.
حيث تركيا تنتفي القيم والأخلاق والإنسانية
عندما تتخذ الدول المصالح بالدرجة الأولى، ومنها تركيا، فإنه في الحقيقة تغيب جميع القيم، والأخلاق والإنسانية ومبادئ حقوق الانسان، التي شرعتها القوانين الإلهية، وقوانين الأمم المتحدة، دولة الاحتلال التركي تعمل وفق مصالها، ومن مصلحتها الآن الانعطاف إلى التقرب من حكومة دمشق، لتغيير موازين القوى في المنطقة، وبخاصة شمال وشرق سوريا، وهي في حالة صراع مع الحلفاء في الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وأيضاً تحاول خلق توازن في علاقاتها مع الروس؛ لأن هناك اتفاقات وأموراً يجب أن تلتزم بها تركيا مع الروس، وبخاصة فيما يخص إدلب، وجبهة النصرة، وتطبيق ما اتفق عليه في آستانا من جهة أخرى، لذلك تركيا لا ترى مانعاً في التقرب من حكومة دمشق؛ لأن مصالحها الآن تقتضي ذلك، والإيرانيون يحاولون ردم الهوة بين الطرفين، وإنهاء الخلافات بينهم.
ومنذ بداية العام الجاري، كانت المواقف التركية تجاه دمشق مرنة نوعاً ما، وتنازلت عن تلك المواقف النارية، التي اتخذتها في الأعوام السابقة ضد الرئيس السوري وحكومته، فالضغوطات التي تعرض لها نظام أردوغان من الداخل والخارج، كفيلة بتنازل أنقرة والتقرب من دمشق.
فبعدما كانت العلاقات السورية التركية مجرد تعاون استخباراتي، هناك مؤشرات الآن عن حدوث تقارب بين دمشق وأنقرة، حسب متابعتنا للأوضاع في سوريا والمنطقة بشكل عام، ستكون هناك تغييرات سياسية جذرية في المنطقة، والتصريح الأخير لوزير الخارجية التركي حول دعم حكومة دمشق ضد الإدارة الذاتية، أكدت بأن فكرة إعادة العلاقات مع دمشق جدية.
من المؤكد حصول تقارب سياسي بين دمشق وأنقرة، “في السياسة، لا توجد ثوابت بل مصالح مختلفة، وبالتالي يمكن مع تغيير موازين القوى الحالية، أن تتغير المواقف بشكل جذري، خاصة أن حكومة أردوغان، كانت قد سعت في بداية الأزمة السورية في 2011 للتواصل مع الأسد، لإيجاد حل ينقذ النظام السوري، ويلبي بعضا من مطالب الشعب السوري، فأنقرة لديها استعداد دائم للتواصل مع دمشق.
يبدو أن التقارب التركي – السوري في هذه المرحلة ليس مستغرباً، وبخاصة أن الأوضاع العالمية والإقليمية لا تحتمل خوض صراعات، وحروباً جديدة، قد تؤدي إلى تقسيم سوريا، وبقاء الإرهاب إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يستوجب التفكير بالحلول عبر النقاشات، والحوارات السلمية، وعلى تركيا ان تغيير من سياساتها تجاه شعوب المنطقة، والتعامل معها على أساس مبدأ حقوق الإنسان، والمواثيق الدولية، والعمل الجاد على إنهاء حالة الحرب، التي تتسبب في دمار المنطقة.