سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

أرمين سركيسيان: “الأرمن والكُرد تجمعهم المآسي والجرائم العثمانية”

قال الرئيس الأرمني أرمين سركيسيان إن المجازر الجماعية بحق الأرمن في تركيا العثمانية بدأت في عامي 1894-1896، وراح ضحيتها 300 ألف أرمني، مؤكداً أن الكرد وغيرهم أشقاء للأرمن في هذه المآسي والفظائع التي اُرتكبت من قِبل العثمانية البائدة.
وحول ذلك أجرت صحيفة الأهرام العربي المصرية حواراً مع رئيس جمهورية أرمينيا الدكتور أرمين سركيسيان سلطت الضوء على قضايا تاريخية حاكمة للسياسات العامة في جمهورية أرمينيا انطلاقاً من المذابح التي تعرض لها شعب الأرمن عام 1915.
ـ لقد مضى أكثر من قرن على الجريمة الشنيعة التي اُرتكبت بحق الإنسانية والحضارة بين عامي 1915-1923، ولكن عواقب تلك الجريمة ما زالت موجودة حتى يومنا هذا وتعوق التطور الطبيعي لأرمينيا، كيف تعلقون على ذلك.
في الحقيقة، إن المجازر الجماعية بحق الأرمن في تركيا العثمانية بدأت في عامي 1894-1896 أيام السلطان عبد الحميد الثاني، وراح ضحيتها 300 ألف أرمني، وسجلت مواقفها ضد هذا الحدث الدول الكبرى في حينه، والصحافة العالمية إضافة الى الشخصيات البارزة، واستفادت حكومة تركيا الفتاة من ظروف الحرب العالمية الأولى وأطلقت بين 1915-1916 خطة إبادة الأرمن في تركيا، من خلال تنفيذ عمليات الترحيل والعنف والقتل على نطاق واسع وغير مسبوق. في 24 أيار 1915 قامت روسيا وفرنسا وبريطانيا العظمى في بيان مشترك بوصف ما جرى على أنه “جريمة بحق الإنسانية والحضارة”، وفي وقت لاحق، في عام 1944، قام رافائيل ليمكين بإدراج مصطلح “الإبادة الجماعية” في القانون الدولي على أساس إبادة الأرمن في عام 1915، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، واصل مصطفى كمال عمل أسلافه، وقتل من تبقّى من الأرمن في كيليكيا وأرمينيا الغربية، وشن حرباً ضد جمهورية أرمينيا الفتية.
– وكيف حدث ذلك؟ ألم يقم الأرمن وهم من مواطني الإمبراطورية العثمانية بخدمة تلك الدولة بإخلاص، كما ساهموا في تطورها، بماذا كانوا يعيقون الأتراك؟
حادثة الإبادة وآليات تنفيذها، فقد ترك العديد من شهود العيان؛ من الدبلوماسيين والعسكريين والأطباء العسكريين والمبشّرين والسياسيين ووسائل الإعلام الدولية وغيرهم، شهادات لا يمكن إنكارها حول الإبادة الجماعية وسبل تنفيذها، ولاحقاً، قام الخبراء في الأوساط الأكاديمية والمؤرخون وعلماء الإبادة الجماعية بتوضيح ذلك استناداً إلى الوثائق الأرشيفية، والعالم يدرك ذلك جيداً، أود أن أركز على بعض أسباب الإبادة وعواقبها.
السبب الأول سياسي: كان ينبغي أن تصل “المسألة الأرمنية” التي أثيرت في مؤتمري سان ستيفانو وبرلين في عام 1878 إلى نهايتها المنطقية بإعادة تأكيد السيادة الأرمنية على الأراضي التاريخية لأرمينيا، ووضع أساس لاستقلال أرمينيا لاحقاً، وفي وضع الشعوب العثمانية الأخرى حدث ذلك في المناطق الأوروبية والشرق الأوسطية في الإمبراطورية بعد الحرب البلقانية والحرب العالمية الأولى. وهذا ما أثار غضب السلطنة التركية ثم الجمهورية التركية؛ لأنه في حال استقلال أرمينيا، كان سيتم اقتطاع الجزء ذات الأهمية الاستراتيجية من جسم الإمبراطورية، والذي كان سيقطع طريق الأتراك باتجاه القوقاز وبلدان آسيا الوسطى.
السبب الآخر للإبادة عقائدي: سعت القومية التركية الناشئة إلى تحويل الإمبراطورية الشاسعة ومتعددة الشعوب والثقافات إلى دولة تركية ذات نسيج وتركيبة واحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار تقدمها السياسي نحو المناطق الشاسعة والغنية في القوقاز وآسيا الوسطى. وكانت العقبة الرئيسية على هذا الطريق مرة أخرى الأرمن الذين سكنوا بين هاتين المنطقتين، وكذلك اليونانيين والمسيحيين الآخرين القاطنين في آسيا الصغرى. لذلك؛ لم يكن أمام القوميين الأتراك خيار سوى التطهير العرقي لأبرز عنصرين في الإمبراطورية؛ اليونان والأرمن. وهذان الشعبان قاما ببناء الحضارة البيزنطية وورثوها، وهم ورثة الإمبراطورية العثمانية، وكرسوا قدراتهم وإمكاناتهم لتطورها وازدهارها.
كان للأرمن مكانة سياسية واجتماعية خاصة في الإمبراطورية العثمانية منذ القرن السابع عشر والثامن عشر وكان لديهم خطة لدولة مستقلة ودستور جاهز، منذ ذلك الحين، نشطت جماعات سياسية، وتحولت إلى أحزاب سياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
و كان للأرمن دور اقتصادي بارز ومؤثر ليس فقط في الإمبراطورية العثمانية والروسية، حيث أراضيهم التاريخية، بل وغيرها من البلدان الواسعة من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، حيث أصبحوا فاعلين لا يمكن الاستغناء عنهم، بفضل براعتهم في أعمالهم، وقد ساهموا بشكل كبير في التجارة العالمية وتطوير الروابط التجارية والاقتصادية بين الشرق والغرب.
ـ لقد مضى أكثر من قرن على الإبادة، ومهما كانت الخسائر كبيرة، يقول البعض أن ذلك بات من الماضي، ويجب أن ننظر إلى الأمام والمستقبل.
نحن ننظر إلى المستقبل، ونحلم بمستقبلنا، ونخطط لمستقبلنا، ونعمل كل يوم لبناء المستقبل. لكن؛ لنتذكر أن المستقبل هو استمرار للماضي والحاضر، وكثيراً ما نتحدث عن الخسائر البشرية والمادية الضخمة، وهذا صحيح، إن خسارة مليون ونصف المليون نسمة أثّر بشكل أساسي على تكاثر الشعب الأرمني، فكان يجب أن يكون تعدادنا، في ظل الظروف العادية اليوم، ليس فقط بين 10-12 مليون، ولكن على الأقل ضعف ذلك. هذا يعني أن الأرمن نتيجة للإبادة الجماعية حُرموا من حقوقهم في العيش على أراضي أجدادهم، وإدارة حياتهم الخاصة ومستقبلهم، خذوا بعين الاعتبار أن الأرمن لم يكونوا مجموعة عرقية مشكلة حديثاً، بل هم شعب يملك دولة وحضارة قديمة في العالم، وخلال العقود اللاحقة للإبادة، جرى تدمير وتخريب آثار الأرمن والحضارة الأرمينية في جمهورية تركيا بشكل مستمر وممنهج.
واليوم حين نقوم بإدانة تدمير الآثار والنصب التاريخية في أماكن مختلفة من العالم من قبل المتطرفين، فكم يترتب علينا من إدانة بشدة، وكان علينا سابقاً أن ندين تدمير الآثار الثقافية والمادية لشعب بأكمله يعود تاريخه إلى آلاف السنين على الأقل، وتخيلوا الآن وضع الأرمن المنتشرين في أصقاع العالم، الذين بقي معظمهم بلا وطن لعقود طويلة وحتى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
بالمناسبة، رغم أن الأرمن حاربوا خلال الحرب العالمية الأولى بكرامة وتضحية على كل الجبهات في جيوش الحلفاء، من فيردن إلى فلسطين، ومن بريست إلى طرابزون والقوقاز، لكنهم لم يحصلوا بعد نهاية الحرب على وطنهم الذي حلموا به، اليوم، يعيش ما يقارب الثلاثة أرباع الأرمن في دول مختلفة، في ظروف تشمل أعراف وتقاليد وطبقات اجتماعية متنوعة، ويبذل الأرمن في كل مكان جهوداً جبارة للحفاظ على هويتهم، والتحدث عن حقوقهم التي حرموا منها نتيجة الإبادة الجماعية
ـ ماذا استفدتم من دروس الإبادة، وماذا يمكن للإنسانية أن تفعله؟
من المؤسف الإدراك بأن الإنسانية لم تتعلم دروساً من الإبادة الأرمنية، لقد نسيت الإبادة وظلت بدون اعتراف ولم يتم إدانتها، ولو تمت إدانتها لكان من الممكن منع جرائم مماثلة في تاريخ البشرية. لكن؛ الإنسانية شهدت بعد ذلك إبادات أخرى، حسب قناعتي العميقة، فإن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن لا يقتصر على الأرمن فحسب، بل هو في المقام الأول مسألة موقف من القيم الإنسانية، ولعدم تكرار هذا الشر. إن أرمينيا تنطلق من هذا الوعي، وتحدد منع الإبادات أحد أولويات سياستها، وتقوم بخطوات نشيطة في هذا المسار على الصعيدين القومي والدولي. وبمبادرة من أرمينيا اعتمد مجلس حقوق الإنسان لدى منظمة الأمم المتحدة دورياً قرارات بشأن منع الإبادات، أما في عام 2015 بمبادرة من أرمينيا أيضاً تم اعتماد قرار من قبل منظمة الأمم المتحدة لإعلان 9 كانون الأول كيوم عالمي لإحياء وتمجيد ضحايا جريمة الإبادة الجماعية ومنع هذه الجريمة.
وبالتالي، إن قضية الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن والتي يثيرها الأرمن أمام المجتمع الدولي وتركيا موضوع واقعي، وتشمل عدة مكونات سداد دين الذاكرة، ومنع تكرار مثل هذه الجرائم، وإزالة عواقب الإبادة الجماعية، وبعد صمت دام نصف قرن، بدأ العالم في أعوام 1960-1970 الحديث من جديد عن الإبادة الأرمنية، وكانت الأروغواي أول دولة تعترف بها عام 1965، اليوم، العديد من الدول والمنظمات الدولية في العالم اعترفت بالإبادة الأرمنية، منها فرنسا، روسيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، إيطاليا، سويسرا، الفاتيكان، وفي العالم العربي، لبنان وسوريا، وعدد الدول بازدياد مستمر.
اليوم، ليس لدى المجتمع الدولي شك في حقيقة الإبادة الجماعية بحق الأرمن. وفي الوقت ذاته، من غير المقبول أن يُنظر إلى قضية الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن من وجهة نظر المصالح الاقتصادية أو السياسية الحالية مع أنقرة، في تلك الحالة، لا يمكننا، أن نعلن من جهة معركة مشتركة فعالة ضد معاداة الإنسانية، والتمييز، والتعصب، ومعاداة السامية، وإنكار الإبادة، وشرور إنسانية أخرى، ومن جهة أخرى، نمارس “دبلوماسية” حول تلك القضايا.
اليوم، المجتمع الدولي والشخصيات السياسية والاجتماعية ومن بينهم عدد كبير من المفكرين الأتراك والشخصيات العامة يطالبون بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، آملين أن تتصالح السلطات التركية مع الصفحات المأساوية من تاريخها، وتتجاوزها،
إن جريمة الإبادة الجماعية لا تسقط بالتقادم، وبالتالي فإن اعتراف تركيا بالإبادة الجماعية للأرمن وإزالة عواقبها ضمان أمني بالنسبة لأرمينيا وللشعب الأرمني، وللمنطقة أيضاً، لا يمكننا أن ننسى الإبادة الجماعية للأرمن، ولا يمكننا التصالح مع عواقبها. لا يمكننا تجاهل معاناة الضحايا والناجين، ويجب علينا تأمين مستقبل آمن ومشرّف لأجيالهم.