ترتبط السياسة التركيّة بالأطماع الشخصيّة للرئيس التركيّ أردوغان أكثر منها التزاماً بمحدداتٍ وطنيّة ومطالبَ شعبيّة، ويعتمد أردوغان على تسخين الأجواء وشحن الرأي العام مع اقتراب أيّ موسم انتخابيّ، فيرفع سقفَ الهواجس الأمنيّة ليقودَ الناخبين إلى صناديق الاقتراع مدفوعين بالمخاوفِ، بعدما تكونُ الحكومة وإعلامها قد وضعتهم على مفترقِ الخيارِ الافتراضيّ: إما نحن أو الفوضى، بالتوازي مع حملةٍ مركّزة لتقزيم المعارضة وكيلِ الاتهامات إليها بالتقصير والقصور، وهذا ما تقوم به الحكومة حالياً على مسافة أربعة أشهر من الانتخابات البلدية تحدوها الرغبة العارمة للثأر من هزيمةِ انتخابات البلدية في آذار 2019.
مجدداً التهديد بعدوانٍ على تل رفعت
مجدداً هدّد الرئيس التركيّ أردوغان بالسيطرة على منطقة تل رفعت بريف حلب الشمالي ومناطق أخرى لم يُسمِّها في شمال سوريا في وقتٍ قريب. وجاء تصريح أردوغان في كلمةٍ له الخميس 7/12/2023، بعد اجتماعه مع الحكومة التركيّة، وقال: “قريباً سننظف منطقة تل رفعت وغيرها من المناطق في الشمال السوري من المنظمات الإرهابية”، وأضاف: “أقول لكل داعمي المنظمات الإرهابية عند حدودنا الجنوبية، الساعية للانفصال، إننا نرى مخطّطاتكم ونُدركها، ولن نسمح أبداً بتنفيذ خططكم، وسندمّر مواقع المنظمات الإرهابية فوق رؤوسها في شمالي كل من سوريا والعراق”. وقال أيضاً: “لن نسمح بتأسيس وجود هيكلية إرهابية عند حدودنا الجنوبيّة”، بحسب تعبيره.
التهديد التركيّ ليس جديداً، بل إنّ أنقرة تجاوزت التهديد بكثير، فالعدوان على شمال وشرق سوريا لم يتوقف على مدى سنوات، فيما التهديد يُراد به تحصيل موقف سياسيّ، وفق ظرفيّة محددة تتعلّق بمحددات سياسة أنقرة ومن جملتها وتحشيد الداخل التركيّ في المواسم الانتخابيّة، وأضحى التهديد بالعدوان طقساً انتخابيّاً مكرراً.
توهِم الحكومة التركيّة الحالية الناخبين الأتراك عبر وقلب الحقائق بالكامل وخلق الهواجس الأمنية الافتراضيّة وترسيخها وكذلك نظرية المؤامرة، وهي تتبنى خطابين متناقضين تماماً، فمن جهة تقول إنّ تركيا أقوى في ظلّ بقائها في السلطة وباتت رقماً صعباً في المعادلات الدوليّة وعززت قدراتها وطوّرت صناعاتها العسكريّة، ومن جهة ثانية تتخذ موقع الدولة المعتدى عليها وأنّ أمنها القوميّ في خطر. وبلغة الوقائع والإحصاءاتِ لا تتوفر لدى أنقرة أيّ أدلة لتعرضها لهجماتٍ حقيقيّةٍ على طولِ الحدود المشتركة مع سوريا طيلة سنوات الأزمة السوريّة، بل كانت تلك الحدود مصدر الخطر ومعبر المتطرفين من كلّ أنحاء العالم، وكذلك العدوان التركيّ ليحتل مناطق في شمال سوريا، لدرجة أنّ حديثها عن الأمن القومي لم يعد متوقفاً على الحدود الدوليّة، بل بات في عُمق أراضي دولةٍ مجاورةٍ، وتبرير الاحتلال بحجّة نصرة الثورة في ذلك البلدِ.
والواقع أنّ التهديدات التركيّة هي سبيلُ ابتزازِ واستدراج الدول الكبرى إلى مواقف متناقضة باستغلال مستغلةً في ذلك أهميّة الموقع الجيوسياسيّ لتركيا فلا موسكو ولا واشنطن في واردِ الاستغناءِ عن دورها بالمنطقة. فموسكو المنخرطة في الأزمة السوريّة لم تستطع تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض إلا عبر التنسيق مع أنقرة، وكذلك فيما يتصل بموقفها من الحرب في أوكرانيا وعدم انضمامها للعقوبات الغربيّة، فيما واشنطن المتخوفة من زيادةِ النفوذِ الإيرانيّ تجد في أنقرة البديلَ الأكثر مناسبةً، علاوةً على عدم رغبتها بالصدام معها وفقاً لمقتضيات الشراكة التاريخيّة في حلفِ الناتو.
تحضيرات للمعركة الانتخابيّة
جاء التهديد الأخير متزامناً على مسافة أربع أشهر من الانتخابات البلديّة في تركيا، وحزب العدالة والتنمية الحاكم يستعد لها منتشياً بانتصاره في الانتخابات البرلمانية والاحتفاظ بمنصبِ الرئاسةِ، ويسعى للثأرِ الكامل من المعارضة بكلّ أشكالها وتوجهاتها وإخراجها من المعادلة السياسيّة عبر استعادة البلديات الكبرى وفي مقدمتها بلديات: إسطنبول، وأنقرة، وأنطاليا، وآمد “ديار بكر”، ومرسين، وأضنة وغيرها التي خرجت من يده في الانتخابات البلدية التي جرت في 31/2019.
ستشهد الفترة المقبلة، تسخيناً انتخابيّاً وتحديد المرشحين، والتحالفات، وستتضح أكثر ملامح المعركة الانتخابية. ويمنّي حزب العدالة والتنمية نفسه بالحصول على الأغلبيّة، واسترداد رئاسة البلديات الكبرى، وفي مقدمتها إسطنبول وأنقرة، ولذلك سينتقي الحزبُ الحاكمُ أسماء مرشحيه بحرصٍ بالغٍ لخوضِ المعركة الانتخابيّة ممن يحظون بقبول جماهيريّ مثل وزير التخطيط العمرانيّ السابق، مراد قوروم، الذي عمل في إعادة إعمار المناطق التي ضربها الزلزال المدمّر في شباط 2023، وكذلك وزير الصحة الحالي، فخر الدين قوجة، الذي تم تداول نجاحه في التعامل مع أزمة “كورونا”، إضافة إلى توفيق كوكصو، رئيس بلدية إسنلر بإسطنبول، وكذلك رئيس مجموعة حزب العدالة والتنمية في مجلس بلدية إسطنبول. فيما يتم تداول أسماء لخوض معركة العاصمة أنقرة مثل: مراد كوسه، وتورغوت ألتينوك، وهاكان هان أوزجان.
يدرك المتابع لتصريحات الرئيس التركيّ أردوغان بشأن رئاسة بلدية إسطنبول منذ خسارتها في 2019 أنَّ تلك الخسارة بقيت حاضرة في نفسه، فإسطنبول هي ميزان السياسة ومعيار الحكم على المزاج العام، فهي خزان انتخابيّ بثقله النوعيّ وتجاوز عدد الناخبين فيها عتبة العشرة ملايين، وفي اجتماع لرؤساء فروع حزب العدالة والتنمية عُقد في نهاية تشرين الثاني الماضي وأكّد أردوغان أنّ الهدف الرئيسيّ للحزب، هو استعادة إسطنبول، وأنقرة. ووفقاً لهذا الهدف حدد مسار حركته والاستراتيجية الانتخابيّة التي سيتبعها في المرحلة اللاحقة.
وتتضمن الاستراتيجية الانتخابية استغلال الرصيد الانتخابيّ الذي حصل عليه تحالف الجمهور في انتخابات أيار الماضي، والتي بموجبها حصد أغلبيّة مقاعد البرلمان، ومنصب الرئاسة لدورة ثانية. وكذلك استغلال الأخطاء التي ارتكبها أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة خلال السنوات الماضية والتركيز سيكون على إسطنبول، والترويج عبر الماكينة الإعلامية على تأكيد فشل إمام أوغلو في منصبه والتحريض ضده باتهامه بتجاهل مطالب سكان المدينة وتراجع الخدمات في سياق أجندته الشخصيّة وطموحاته. وأنّ أحوال المدينة أفضل بكثير في ظل رئاسة العدالة والتنمية للبلدية، ومن المؤكد أنّ العدالة والتنمية سيستمر في تعزيز تحالفه مع حزب الحركة القوميّة لضمان أصوات القوميين، فيما مهمة العدالة والتنمية هي استقطاب أصوات أصحاب التوجهات الدينيّة والمحافظة، ولعله يسعى للاحتفاظ بعلاقته مع حزب “الرفاه الجديد”، الذي يترأسه فاتح أربكان، لكن المعطيات الأوليّة تشير إلى ترجيح احتمال خوضه للانتخابات منفردًا، ولن يكون ذلك عائقاً انتخابيّاً، بسبب كون الحزب ناشئاً لا يحظى بحاضنة كبيرة، والأهم من ذلك أنّ إنجاز له قد يكون في صالح العدالة والتنمية، فالأكثر أهمية هو خسارة أحزاب المعارضة.
وأمّا حزب الدعوة الحرة/ هدى بار الذي يترأسه زكريا يابيجي أوغلو، فإنّ مهمته الأساسيّة هي إحداث اختراق في أوساط الناخبين الكرد، واستقطاب ما يمكن من أصواتهم في ولاية إسطنبول وجنوب البلاد، ورغم وحدة العنوان الإسلاميّ بين الحزبين الإسلاميين إلا أنهما مختلفان في طبيعة الدور، ففيما حزب الرفاه من جديد حزبٌ نخبويّ ذي جذور تاريخيّة، فإنّ حزب هدى بار شعبويّ وقد نظم نشاطات خاصة بعد الحرب في غزة، ولديه نسبة لافتة من الكوادر الشابة ولهذا ينشط بصورة ملحوظة على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
لكن ثمة مسألة ينبغي الوقوف عندها، فصحيح أنّ حزب الشعب الجمهوريّ خسر السباق الانتخابيّ البرلمانيّ والرئاسيّ في أيار الماضي إلا أنّ كمال كيليشيدار أوغلو مرشح المعارضة تفوّق في الجولة الأولى على أردوغان في إسطنبول بفارق بلغ نحو 2%، وفي أنقرة بأكثر من 1%، وفي الجولة الثانية تجاوز الفرق في إسطنبول 3%، وفي أنقرة بلغ 4%. ما يعني أنّ المدن الكبرى مازالت معاقل للمعارضة، وذلك رغم الأداء السلبيّ لكلٍّ من إمام أوغلو ويافاش رئيسي البلديتين. من جهة ثانية تفوّق كيليشيدار أوغلو في بلديات تعتبر معاقل للمحافظين الأتراك، مثل: بلديتي أيوب سلطان بالقسم الأوروبيّ، وأسكودار في القسم الآسيويّ، حيث محل إقامة أردوغان نفسه.
استكمال السيطرة على الدولة
وجّه أردوغان فور انتهاء الانتخابات الرئاسيّة نداءً لجماهيره عن استكمال المسيرة واستعادة رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات البلدية، وفيما يلي من أيام لم يكن خافياً أنّه بدأ العمل فعليّاً للتحضير للانتخابات البلديّة التي ستجري في آذار المقبل، وبدا واضحاً رغبته العارمة في تفكيكِ تحالفِ المعارضة، الذي شكّل تهديدًا لوجوده في السلطة لأول مرة على أكثر من عقدين من وجوده بالسلطة، عمل خلالها حثيثاً على إضعافِ مؤسساتِ الدولة وحصر الصلاحيات بنفسه عبر قلب النظام من البرلمانيّ إلى الرئاسيّ في استفتاء 2017، وحصر الصلاحيات بشخصه. وفيما لو نجحت مساعي أردوغان في استعادة بلديات أنقرة وإسطنبول، فإنّه سيكون قد حجز البلد كلها واستولى على جميع سلطات البلديات والبرلمان، علاوةً على السلطة التنفيذيّة.
وفي سياق التمهيد لهذه الانتخابات باشرت المؤسسات الموالية للحزب الحاكم بنشر استطلاعات الرأي التي تظهر تقدمه على حساب المعارضة، وعلى سبيل المثال نشرت مؤسسة ASAL Araştırma نتائج استطلاعاتها الأخيرة في المدن الكبرى إسطنبول وأنقرة والتي أظهرت تقدّم حزب العدالة والتنمية فيها وتؤكد أنّ المنافسة ستكون حامية الوطيس، والواقع أنّ الهدف الأساسيّ لمثل هذه الاستطلاعات هو الإيحاء باستعادة الحزب الحاكم لشعبيته، للتأثير على المزاج الشعبيّ العام.
انشطار المعارضة واختلافها
في الواقع أنّ تعويل أردوغان على الفوز بالانتخابات القادمة لا يتوقف على كسب الأصوات فقط، بل من جهة أخرى على انشطار المعارضة التركيّة أو ما عُرف بتحالف الأمة (الطاولة السداسيّة) والتي ضمّت أحزاباً صغيرة وتناقضات ما بين توجهات أيديولوجيّة وسياسيّة (قوميّة وإسلاميّة وعلمانيّة)، هي: حزب الشعب الجمهوريّ الأتاتوركي، وحزب الخير القوميّ اليمينيّ، وحزب المستقبل اليمينيّ المحافظ، وحزب السعادة الإسلاميّ، وحزب “الديمقراطية والتقدم” الليبراليّ، والحزب الديمقراطي اليمينيّ.
وقد أصيبت أحزاب المعارضة بالإحباط بعد فشلها في خوض الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة. وأسفر عجزها عن تجاوز خلافاتها، عن عدم تقديم مرشحين يحظون بالشعبيّة الكافيةِ لضمانِ الفوز، وكذلك بسببِ عقليّة المحاصصة التي أهدرت كثيراً من فرص التوافق ورفعت سقفَ السِجالِ وتأخرت في التوافق حول مرشحها الرئاسيّ.
وفي هذا السياق أعلنت ميرال أكشينار زعيمة حزب الخير في 2/9/2023، أنّ حزبها سيرشّح ناخبين للانتخابات البلديّة دون الاعتماد على تحالفات، لكنَّ خيار دعم بعض المرشحين عن الأحزاب الأخرى ما يزال قائماً. وأكّدت ميرال، أنَّ انتخابات البلديات القادمة لن تشهد تحالفاً للحزب، غير أنّها قد تشهد توافقاً على مرشحين. وجاءت تصريحات ميرال بعد أيام من الهجوم على زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليشيدار أوغلو واتهامه بأنّه السبب في خسارة الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانية، ورفضها الدخول في أيّ تحالفات جديدة مع الحزب.
وفي 7/12/2032 أكّد حزب الخير هذا التوجه في بعد اجتماعات مكثفة لأعضاء المجلس الإداريّ العام تداول فيها الرأي والتفاصيل الفنيّة للمشاركة المحتملة في التحالف. وفي نهاية هذه الاجتماعات، أصدر الحزب بيانًا كتابيًا أكّد فيه أنّه سيشارك بمفرده في الانتخابات المحليّة القادمة.
وفي نتيجةٍ مباشرة للفشلِ في الانتخابات النيابيّة والرئاسيّة الأخيرة، أُزيح كيليشيدار أوغلو عن رئاسة حزب الشعب الجمهوريّ، وفاز أوزغور أوزال، نائب زعيم الكتلة البرلمانيّة لحزب الشعب في انتخابات الحزب في 6/11/2023. ولكن تواجه أوزال تحديات عدة في قيادة الحزب أولها تثبيت زعامته للحزب، وحفظ وحدته والتحرر من تأثير أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، والأهم من كلّ ذلك تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات البلدية المقبلة.
المعطيات الأوليّة الحالية ترجّح احتمال خسارة حزب الشعب الجمهوريّ في الانتخابات البلديّة المقبلة، وأنّه سيدخلُ في سجالات وقد يشهد انقساماً داخليّاً، وبذلك فإنّ مصير أوزغور أوزال ومصير حزبه سيتحددان بعد الانتخابات البلدية في آذار المقبل.