سياسية - اجتماعية - ثقافية - عامة، تأسست عام 2011

أحمد حسيني.. بين مشيخة الشعر وأبوة الحداثة الكردية شعرياً.. ـ2ـ

آراس بيراني_

وكان الحسيني وفياً للغته، ولهجته الشمالية الجميلة، فلا ثمة فرق كبير بينها وبين لغة البيت، اجتاز بها جدران بيته، وتخوم الأدب الكلاسيكي، وتألقت مفرداته، التي نهلها ليس من أمهات الكتب التراثية، وإنما ولجها من عتمة أزقة عامودا، فأضاءت مسارات الكتابة الشعرية الجديدة.
أضواء مصابيح عامودا الشحيحة، ولفح نيران أفرانها، نهلت من ضوء عينيه، وهو الذي كان يستسيغ الضوء، يلتمس أثر بورخيس في مداهنة النور، يقوده قلبه للضوء، يهتك شرانق اللغة، يقص حوافها، فأمعن في رسم المشاهد، منحها بعداً تصويرياً سينمائياً، وتركها على سجيتها كقطيع ماعز على تلال شرمولا، كحارس أعمى، استمر في حراسة مدافن المدينة، يطفئ حرائقها بزلال الشعر، يغني لها، يحرس الظلال في هجير ظهيرة قاسية، يمزج كأس الحياة بنوازع الأزلية بين تهشيم فوضى الحياة إزاء سببية الحياة، مانحاً الموت رحابة المكان في نصوصه، دونما تهميش أو تهشيم، هكذا استكان للهيب القصيدة، رمى أحطابها القديمة، يستقي منها صهراً جيداً.
هكذا في بدايات المغامرة الكتابية للشعر، وفي ظل التبدلات الفكرية، والتلاقح الأدبي، والحالة الاقتصادية المزرية، وسيطرة الرهاب الأمني، في ثمانينات القرن الماضي انفلت الشعر من عقاله، واشتعلت ثورة شعرية بشكلها الخاص، وانتقلت جذوته إلى بيادر الكتابة القصصية، التي مهدت للرواية، وبغياب شبه تام لحركة نقدية، أُسست الركيزة الأساسية، واستطاعت أن تؤسس لنمطية جديدة، كان من الضروري أن تكون الحداثة مرافقة مكوناتها وثقافتها، فأدرك الحسيني، بأن تراث الكرد الأدبي والغنائي غني، وبامتلاكه لغة التعبير غامر كخزاف، فيما يمتلك من صهر وتراب، فأنهمك في تفاصيل بنية قصيدته، فمثلما توجه”سليمو” ابن جيله وبلدته “عامودا” إلى رحاب العربية متخذا من المكان بؤرة حداثية، وهكذا توجه الحسيني لحراثة المكان بمحاريثه الكردية، مصراً على زرع بذرة الحداثة في رحم القصيدة الكلاسيكية، ليعلن عن نمط مختلف، وليؤسس أبوة بيولوجية لقصيدة النثر الكردية، والتي كان من الصعب تحديد الأب والعراب الأول لها.
أما فيما يخص لقبه الشعري شيخ القصيدة الكردية الجديدة، فإذا كان الجزيري شيخ قصيدة الكلاسيك، فلربما كان لقب الشيخ من هنا، وربما كانت لأنه سليل مشيخة دينية ذات مكانة مرموقة في بيئتها، وما بين المشيخة والأبوة تم هتك الأوزان، وتحطيم الأقفاص الشعرية القديمة، وتجرأ ممارساً تحطيم قوالب الشعر، وقرر أن يكتب شيئا مختلفا عن شيخه الأول الجزيري، وسيديه تيريز، وإمامه جكرخوين، وبدأ المخاض ولم ينتهِ بولادة النص على المستوى اللغوي الكردي الكرمانجي.
لربما يأتي قائل متابع لحركة الشعر الكردي، فيعلن أليس الشاعر قدري جان هو الأب؟!. خاصة وإنه نشر نصوصا كردية حرة، ولربما كان أحد روادها، لكنه لم تعهد نصوصه المتواضعة بالرعاية، لم يدلل قصيدته، ولم يكتب له تاريخ الأدب الكردي متابعين، ومريدين وتلاميذ، إنما الحسيني وقف من البدايات مهيئا لها حضناً حنونا راعيا، مدافعا مغيرا في البنية النصية والصوتية للقصيدة، وغيوراً عليها من الآداب المجاورة، مستمراً في مزاميره ونحيبه منشداً ولهه، وعشقه في عتمة ليالي هجرانه.