صور شعرية خالية من الشحوم البلاغية، تنزل الواحدة بعد الأخرى، مثل دموع العاشق المطعون بالعفن السقيم.
صدر ديوان “آب أقسى الشهور” للشاعر اللبناني عقل العويط، عن دار نلسن الطبعة الأولى، آب 2021، وهو الجزء الثاني من ثلاثية التراجيديا اللبنانية، حيث أن “الرابع من آب، دار شرق 2020 يكون الجزء الأول، والجزء الأخير” قصيدة البلاد الصادرة لدى هاشيت/ أنطون بالعربية والفرنسية (ترجمة رينيه أسمر هريوز).
إن قوة قصيدة النثر لا تتراءى من خلال كلمة، أو صورة، ولا من خلال معنى عام، وإنما هي تكمن في “عدم الترابط التناغمي” هذا على حد تعبير بول فاليري، في نظام مستتر يربط بين جمل خاطفة، وهاهنا يكمن اللغز الخلاق لقصيدة النثر.
في ديوان عقل العويط، نرى ونتحسس توليف المبدأين الرئيسيين، الهدم والبناء، الفوضوي، والفني وذلك من خلال اختلال مدروس للحواس، وانحراف متعمد لمهماتها في التراسل، بغية إعطاء قصيدة النثر، (التكثيف/ والسرعة)… علامة نبلها الشعري، يقول الشاعر مستهلاً قصيدة “أرضنا الخراب”، وهي القصيدة الأولى في الديوان:
“أبدأ بالنفي، خجلاً من رحاب اليقين.
أنا الذي لا يملك من أسباب هذا اليقين إلا الموت”.
نفاذ الصبر هذا الذي استثاره السأم العنيف المفعم بالطاقة، المولدة للغضب والقرف، كان فاتحة القصيدة عنده، فالشاعر يجعل من نفسه رائياً عبر اختلال مدروس طويل لكل الحواس، لكل أشكال الحب، الألم، الجنون.
يبحث بنفسه، يستنفذ كلّ السموم في نفسه، ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر، عذابٌ لا يوصف يحتاج فيه إلى كل الإيمان، إلى قوة الشعر الخارقة، حيث يصبح بين الجميع، المريض الأكبر، الملعون الأكبر، والعليم الأسمى، لأنّه يدرك المجهول.
والشاعر عقل العويط تخصّب كثيراً بقصيدة “الأرض الخراب” للشاعر الإنكيزي ت.س.إليوت. حاله كحال الكثير من الشعراء العرب، والعالميين.
وسأكتفي بالإشارة إلى دلالة المزيج القلق، الحميم والقوي، للعاطفة الصوفية، والتوقد الحسي، وشعار الموت، والوعي العميق بالأحاسيس، ورنينها المتناغم بين “أرض خراب إليوت” و” آب أقسى الشهور للعويط”.
لقد تبادلا القيم، فكلٌ منح الآخر ما لديه، وتلقى منه ما ليس لديه، لقد أوصل إليوت، للعويط، نسقاً كاملاً من النسق الشعري الجديد والعميق، فتلقفه العويط، وأثراه بحرارة الشرق ولهيب المشاعر:
“ألم أقل لك ما ينبغي أن أقوله؟
ألم أنفِ ما يجب أن أنفيه، منذ البداية؟!
نيسان ليس أقسى الشهور، يا إليوت
وبيروت ليست لندن
وأرضك الخراب ليست هي الأرض الخراب
هنا بيروت، وهنا الأرض، وهي أرضنا الخراب”. ص (21)
إذا كانت العبارات المكتوبة على شواهد قبور الضحايا في الحرب العالمية الاولى، بمثابة إشارة إلهام، أو ” اللحظة الشعرية” لإليوت، فإن انفجار مادة الأمونيا في مرفأ بيروت، وما أحدثه من خراب، وموت كان “اللحظة الشعرية” لدى العويط كي يكتب ثلاثيته الشعرية.
كانت لحظة صادمة ومعقدة؛ فهي فتت الشعور بين “الأنا اللحظية” المحطمة من هول الكارثة، و “الأنا الغنية” بالغد المفتوح على احتمالات “طائر الفينيق”.
في الأولى كان العويط يستخرج الكلمة؛ كي يغمسها في عقمها وعبثيتها ولا جدواها، وفي الثانية كان ثمة بعضٌ من العقل، في لحظة الكتابة المشبوبة بإرادة الولادة.
هاتان العاطفتان بعثتا حالة يمكن أن يطلق عليها “روح الشقاق والتنازع”، بين الواقع الفاسد، والأمل الرحباني، والشاعر يعرف بمرارة أن تلك الأرض موجودة، أي أرض المثال، وأن قدر الشعر والشاعر أن يجربا الارتقاء إليها والبحث عنها. يقول:
“قد لا تنهضين قريباً
من العثرة الجليلة
من العثارِ وسلالة الغبار
لكنّكِ ستُشرفينَ
ولابدّ
في نعشٍ يتراقصُ على قبورهم”. “أسرار – 28”.
إن شعره محفلاً لقلق أنطولوجي موجع؛ لوحدة وحنين ممضين، ورغبة عارمة في التجذّر الكياني في أرض شعرية، رمزية بعيدة المنال، أمّا مهمة القصيدة فهي محصورة بين حدين، اثنين متكاملين هما: تمجيد الكينونة الإنسانية وتبجيلها، ثم التعرية من دواخلها وكشف عتماتها:
“كعمود من نار
تضيئين
وبعينيكِ الساهرتين
أهتدي
رغم خرابكِ العميم” . “عمود النار- ص-35”
إنها الحياة المتدثرة بالغبار والموت، لكن الشاعر استطاع أن يشتم عبير الحياة، التي تفوح من معشوقته الخالدة بيروت، بل هو يشعر بها، ويتحسسها على نبت الخراب.
إن الإيحاء هو الهدف للشعر، وليس له هدف سواه، فالقصيدة تغري القارئ أن يفهمها على طريقته.
ليس هذا فحسب، بل إنها تستثيره ليكمل فعل الخلق، الذي يتركه ناقصا عمداً، لكي يتشاركا الخلق.
يُنهي الشاعر قصيدة أسرار، بهذا الشكل:
“الأسرارُ هي العباءةُ هي غابةُ الأسرار
نِعمَ مَن يفقه، مَن يُبصرُ الدربَ
وقشعريرةَ المكان
وبئسَ من لا”. “الأسرار – ص 30”.
لعل أسطورة “زورق الأموات/ زورق قارون” التي تطفو على لغة العويط وإليوت معاً، كانت رمزاَ مرتبطاً بشقاء الناس، وسيعبّر عن العذاب الإنساني، وهذا أيضاً عبّر عنه دانتي عندما جعل الشيخ قارون رمزاً لجحيمه.
وعلى التوازي نراه يوحي إلينا بأن العقدة المقابلة؛ أعني عقدة أوفيلي /أوفيليا، وهي عقدة الرغبة في الفردوس. (المشهد الأوّل بين هملت وأوفيليا)، إن الموت رحلة والرحلة موت، فأن نرحل، يعني أن نموت قليلاً، أمّا الموت فهو الرحيل جيداً.
إن الشاعر حين يتمرأى بست الدنيا بيروت، يحضّر، ويصقل، يغسل هذا الوجه الحميم، إذا ما استطعت أن أقول أهم أبواب الشاعر الكبير عقل العويط تكون كالتالي:
الأولى-تراسل مدركات الحواس، الثانية-استخدام الصور الظليلة الكثيفة، الثالثة-المزج بين الصفات المتباعدة، والألفاظ الموحية المعبرة، وقد وظفها العويط توظيفاً رمزياً، سعى من خلاله الى تحقيق الخلاص الفردي والمجتمعي.