تحقيق/ فيروشاه أحمد –
لم تكن الثورات في يومٍ ما رحلة في عوالم جميلة، بقدر ما هي عمل وثقافة مضادة لثقافة الظلم والعبودية. لم يُخلق الإنسان كي يموت قهراً أو قسوة أو مكرهاً؛ لأنه يحمل رسالة طبيعية وإلهية تلزمه ببناء الأرض والإنسان، ومنذ ولادة الملك المقنع وكهنته يمارسون كلَّ طقوس الظلم والقهر والعبودية بحقِّ الأفراد، واستغلال جهودهم واستباحة أراضيهم وأعراضهم بدافع القوة والسلطة والهيمنة، ومن هذه التناقضات انطلقت أغلب الثورات في العالم قديماً وحديثاً.
وكون الكرد جزءاً هامَّاً من شعوب المنطقة والعالم ولديهم تقاليد وثقافة لا تسمح لهم بقبول أبسط أشكال الظلم، فمن أقدم العصور كانوا يرفضون الاستبداد والاحتلال، ولم يمارسوا بحق أي شعب الممارسات اللاإنسانية، وكانوا وما زالوا يرفضون أيَّ شكلٍ من أشكال الظلم بحقِّهم وحقِّ الشعوب الأخرى.
حمم الكرد تتجدَّد
منذ تولي سنجر كردستان 1071 ميلادي وهو حفيد ألب أرسلان السلجوقي، مروراً بالعهد العثمان والجمهوري حتى الآن مارس الأتراكُ كلَّ أشكال الظلم والقتل والإبادة بحق الكرد، بل مارسوا بحقهم الأبشع من هذا حين طمسوا معالم ثقافتهم التاريخية ولغتهم وتاريخهم.
لم يركن الكرد لحظة واحدة أمام هذه الممارسات اللاأخلاقية، بل كانوا دائماً يعلنون الثورة والتمرُّد والعصيانان في وجه حكوماتهم المتعاقبة، ففي عام 1984م قام القيادي عكيد (معصوم قورقماز) ورفاقه بإشعال نار الحرية في ذرى جبال كردستان، فكانت حمماً على وجوه السلطة والهيمنة التركية وقتذاك (حكومة إيفرين) لم يكن عكيد تواقاً للموت بقدر ما كان يدعو لحرية شعبه، كعادة كلِّ الثوار الأحرار انطلق عكيد ومجموعة صغيرة من رفاقه يحملون بنادقَ الحرية يرسمون للكرد ولكلِّ الأحرار ملاحمَ البطولة.
تفعيل ثقافة الكرد المجتمعية
لم تكن انطلاقة عكيد عبثية أو حالة انتقامية فردية بقدر ما كانت تفعيلاً لثقافة المقاومة وعشقاً للحياة وهو في البدء قال: «الفكر الوطني في منطقة سيلوان والحركة الثورية في تركيا بالإضافة إلى اهتمامي بالحركة الشبابية المثقفة التقدمية صاحبة العواطف الإنسانية، ورغبتي الجامحة في تحقيق أخوة جذرية بين شعوب المنطقة التي ساهمت في أنْ أكون ثائراً». لقد بدأ عكيد بالعمل السياسي والثوري في 1977م بعد أن ترسَّخَت عنده قناعاتٌ ورؤى بنهج واستقلالية وتجديد هذه الحركة التواقة من بين كل الحركات الإصلاحية الأخرى بالانضمام لحزب العمال الكردستاني.
ولد عكيد 1956م في ناحية سيلوان التابعة لديار بكر (آمد) بعدها استقرَّ في باطمان، في بداياته اهتم بحركة الشبيبة المثقفة، ومن خلال مظلوم دوغان اهتدى للفكر الجديد (حركة التحرر الكردستانية) وقد ظهر عليه مباشرة النشاط والحيوية، بل كان متميزاً في كلِّ شيء، لكن تميزه بات واضحاً حين أعلن الحرب على النظام التركي وبعض الفصائل والتيارات الرجعية والوسطية مقارنة بأيديولوجيته وتنظيمه والسياسة الأخلاقية التي كانت تتجلَّى في كل سلوكياته.
من خلال قيادته الحرب الشعبية ضد السلطة التركية حقَّق إنجازات وقفزات نوعية، كونه كان يتمتع أولاً بالانضباط، وصقل هذه الصفات بعد أن دخل ثمانية أشهر في معسكرات فلسطينية في لبنان 1980م وفور عودته إلى جبال كردستان أصبح قائداً عاماً للكريلا، رغم ذلك كانت تجربته ورفاقه بسيطة كونهم يملكون أقل نسبة من العدة والعتاد مقارنة بالجيش التركي، وما جعل عكيد ورفاقه أكثر تميزاً عشقهم والتزامهم بالفكر التحرري والتضحية من أجله، في ظل تواجدهم في مجتمع وصل به الإنهاك إلى درجة اليأس من خلال أبشع أشكال الإبادة الثقافية والجسدية، وإصرارهم على متابعة الكفاح المسلح.
إعلان عكيد باستمرار (الكفاح المسلح ضد الدولة التركية) وما سمع من ردود أفعال سلبية (إنه مجنون) أو (دعوا هذا الأمر الفارغ) زاده إصراراً على االمسير بإدارة فصيلة 14 تموز للدعاية المسلحة في كردستان، وبذات السياق كان يجهز مجموعات مسلحة ثورية للدخول إلى كردستان باسم HRK وفي هذه الأثناء تم اختياره عضواً للمجلس العسكري لقوات تحرير كردستان واقتصرت أعمال هذه المجموعة على الكشف والرصد والاستطلاع، وتكلَّلت كلُّ أعماله وإصراره بإعلان انطلاقة الثورة في 15 آب 1984م حين أطلق أول رصاصة في وجه الطغمة التركية في ناحية (أروه) ولم يكن عكيد ورفاقه يملكون أكثر من 180 طلقةً.
كفاح مثمر
لقد رسخت هذه الثورة مبادئ وقيماً نضالية في نفوس وعقول ووجدان شباب الكرد، فكان الالتحاق بقوافل الثوار من كل كردستان كعرس وطني، فمن كل الجامعات والمدارس وساحات العمل انضم شباب الكرد للكريلا يغنون تراتيل الحرية، ولقد باتت هذه الثقافة تقاليد لعكيد ورفاقه بعد أن لقنهم كل القيم الأخلاقية في قتالهم، وبعد أن علمهم الصبر والقدرة وما جعل هذه الثقافة تسمو أكثر حين ساهم الكثير من الكرد في إنكار نفسه لغرس الثقة أولاً بالنفس، لهذا السبب وغيره من الأسباب اكتسب عكيد صفة (مناضل النهج) وفي أسبوع البطولة وفعالياتها النضالية كان استشهاده ضمن هذا الأسبوع من 21 ـ 28 آذار منهياً حياته في جبال كردستان يقاتل الحكومة والجيش التركي.
مما تقدم وخلال السياق التاريخي للكرد وكل المراحل التي مروا فيها ندرك نتائج هامة منذ انطلاقة هذه الثورة، ففي كل المراحل التاريخية وعندما تكون الثقافة والتاريخ الكردي مثار جدل بين المجتمعات أو الحكومات سواء في عمقه التاريخي (النشوء والوعي) أو الواقع المعاش، يحاولون وبكل الوسائل والطرق إعطاء هذه الثقافة كل صفات التشوه والانكسار، وربط الأحداث والأرقام والشخصيات بالأساطير، حتى يبقى هذا التاريخ يترنح بين المصداقية أو تكذيبها من قبل الكرد أنفسهم، ورغم ذلك عمدوا إلى ممارسة أبشع وسائل العنف لتحقيق غاياتهم، من إنكارٍ للغتهم وهويتهم وإبعاد الكرد عن انتمائهم وعن موطنهم «كردستان».
فكان انبعاث حركة التحرر الكردستانية التي أظهرت للعالم تمسُّك الكرد بتاريخهم وثقافتهم، وقفزة آب تأتي ضمن هذه السياقات المرحلية التي تبنَّتها الحركة وأعلنت نفسها كحركة تحررية لعموم كردستان كضرورة تاريخية، وترجمها عكيد ورفاقه بكل الوسائل الثقافية والمقاومة التي تدعو إلى الحل الديمقراطي والسياسي للكرد في عموم كردستان.
ثورة ضمن ثورة
لم تنطلق قفزة 15 آب من حالة مزاجية أو شخصية، لأن باستمراريتها بات القاصي والداني يعلم تماماً أنَّها ثورة شعب، بل ثورة للشعوب في عموم كردستان وهي تتطلع نحو حريتها.
وما أكد على أممية هذه الثورة أنها لم تعتمد على الكرد فحسب، ففي البدايات تم مزج الثقافات لتصبح ذهنية مجتمعية لكل المكونات، وتلك الأممية تجلت أيضاً في خلط دماء أبناء كل الشعوب في هذه الثورة ترسم للأجيال وطناً يتساوى فيه كلُّ الأفراد، ولأنها لم ولن تكون ثورة مزاجية أو فردانية، بل هي نهجٌ للتغيير في عقلية الأنظمة وسلطتها وهيمنتها، واستبدالها بإدارة مجتمعية ومؤسسات مدنية قوامها العيش الطوعي المشترك. بهذه المفاهيم الإنسانية توسعت رقعة الثورة بعد أن آمن بها المكونات في عموم جغرافية المنطقة، ففي تموز من 2012م كان المشهد الآخر من مفاهيم قفزة آب تنطلق في (روج آفا) الشمال السوري وتلتحق بها كلُّ الشعوب وتحمل الكلمة والبندقية، تبني ثقافة مجتمعية، وتقاتل وتطرد القوى الظلامية التي حاولت اجتياح الجزيرة، هذه المقاومة انتصرت بثقافتها في كوباني وأنهت التواجد الداعشي فيها، حين حررت الأرض والإنسان من المرتزقة المأجورين من أردوغان وحكومته، واكتملت المقاومة حين حرر أبناء هذه الثقافة مدينة الرقة من داعش ومن ثم دير الزور، لم تهدأ مفاهيم 15 آب بطرد الظلم من شمال سوريا، بل عملت على إحياء وتفعيل ذهنية مجتمعية تتوافق وثقافات كل المكونات من خلال بناء جسور من التعاون في هيئات الإدارة الذاتية في كل مدينة وبلدة وقرية، وما مشروع الفيدرالية الذي طرح من قبل هذه الإدارة الذاتية الديمقراطية إلا الشكل الأنسب لتطلعات وطموحات كل المكونات في وحدتها ووحدة الأرض، والعيش المشترك كأخوة تربطهم ثقافة إنسانية ومجتمعية.
اللامركزية من نتاج قفزة 15 آب
