الارتزاقُ… وبيعُ الروحِ

تجمعُ كلِّ العقائدِ والأديان وحتى حكايا المثيولوجيا على حرمان الانتهاكات والتعدي على الإنسانِ، ولكن التمرد خصلة مكبوتة في النفوس حتى إذا ما وجدوا الفرصة ملائمة انقلبوا على القواعدِ الأخلاقيّة وقاموا بالعدوان، هذا هو واقع الحروب وهدف العدوان إذ يرهن البعض روحه للشيطان مقابل متعٍ زائلة، إذ تستدرجه المتعة، وبفتنه الإغواء، والصورة كثيرةٌ التي تجسد هذا الفكرة خلال الحرب السوريّة.

 التهجير ممنوع بإدلب مسموحٌ بعفرين

كان لنبي الله يعقوب اثنا عشرة ولداً، ولما غاب النبي يوسف عن ناظريه بكى فَقدَه سنين طويلة حتى ابيّضت عيناه، ولكنه لم يفقدِ الأملَ بلقائه، وفي هذه القصة عبرةٌ عميقةٌ متعددة المستويات، والقول إنّ يوسفَ كان نبياً ولذلك استحقَ حزنَ أبيه عليه، سطحيّ، لأنّ الأبَ المكلوم بالفَقدِ نبيٌ وحريٌّ به التسليم للقضاءِ وألا يبالغَ بالحزن، ولو كان يعلمُ بمكانِ ابنه لسعى إليه دونما انتظارٍ، والمبدأ هو عدم قبول ببديل رغم وجود 11 ولداً آخرين.

بالنسبةِ للعفرينيّ لا بدائلَ عن بيته ووطنه، ولا يمكنه التسليمُ بواقعِ الاحتلال على أنّه نهائيّ قطعيّ، وتطرح الدوائر المحسوبة على أنقرة شائعات على أنها خيارات بديلة مثل نقل أهلُ عفرين إلى منطقةٍ غير منطقتهم تُنتزعُ من أهلها ليكونوا مستوطنين فيها، أو التسليم باقتطاعِ جزءٍ من سوريا عبر العدوان والحربِ.

البعضُ في مناطقِ النفوذ التركيّ يتطلعون فعلاً للانضمامِ إليها، ليس عبر الولاء لأنقرة ورفع علمها بل باقتطاع الأرضِ، ولعلنا نبحث في سبب ذلك فلا نجد إلا الانتماء المذهبيّ.

يقولُ قائلٌ وماذا تختلف عفرين ورأس العين وتل أبيض عن إدلب أو جرابلس أو الباب؟ في الواقعُ لا اختلافَ بالمعطى الوطنيّ، فكلها أراضٍ سوريّة، ولكن أنقرة تتذرعُ بتدخلها في إدلب لمنع التهجيرِ واللجوءِ أي لإبقاءِ أهلِ إدلب في مناطقهم، ولكنها في عفرين راس العين وتل أبيض تدخلت لتقومَ بالتهجير والتغيير الديمغرافيّ، وأما جرابلس والباب فكانت تحت سيطرة داعش وجرى احتلالهما باتفاقٍ أقرب للمبادلةِ، وهذه المناطق لم تنعم بالأمنِ حتى اليوم، وكلّ حديث عن الأمنِ يندرجُ في إطار شرعنةِ الاحتلالِ وهو كذبٌ فاضحٌ.

الارتزاق والإرهاب العابر للحدود

أخطر به ما قامت أنقرة بتدخلها في سوريا، لم يكن الاحتلال، بل إنشاء طوابير من المرتزقة وفرق القتل التي تجسد الإرهاب العابر للحدود، التي تنفذ أوامرها ومستعدة للقتال لأجلها وهم من تم استخدامها لتنفيذ أجندنها في سوريا، وهم كمن باع روحه للشيطان فبات بلا قيم أخلاقيّة وسقط إنسانيّاً.

وتندلعُ الاشتباكاتُ من وقتٍ لآخر بين المرتزقة الموالية للاحتلالِ، والتي أُعطيت زوراً مسمّى “الجيش” للإيهام بوحدة مرجعيتها وأنّها تلتزم بهيكيليّة تنظيميّة، ولكن ذلك غير صحيح وتثبت الوقائع على الأرض والانتهاكات اليوميّة التي تؤكد السلوك العصاباتيّ للقوات التي دخلت هذه المناطق تحتَ العلم التركيّ وطابعها الميليشاويّ، وأنّها عصية على الانتظامِ والمسافة التي تفصلها عن التنظيمِ المؤسساتيّ كبيرةٌ جداً، ولعلّ انتقالها إلى ليبيا هو تأكيدٌ لولائها لأنقرة وتحوّلها الأداتيّ.

ففي 28/3/2020 أعلن المركزُ الإعلاميّ لغرفةِ عملياتِ الجيشِ الليبي، السبت، مقتلَ أحد المرتزقة السوريين في ليبيا، ويُدعى مراد بولات، وذلك أثناء هجوم للمرتزقةِ الذين جلبتهم تركيا إلى ليبيا، على قواتِ الجيش، أمس”. وذكر موقعُ ليبيا 24 أنَّ مراد بولات قاتل على جبهاتِ ريف اللاذقية الشمالي سابقاً.

موقعُ العين أورد خبرَ مقتلِ مراد وذكر أنّه يُعرفُ باسم “سفاح عفرين”، وقال: يُعرف المرتزق باسم تومبا مراد واسمه الحقيقيّ مراد كانبولات باكي وعمره 25 عاماً ومن سكان مقاطعة “كازيمار” في مدينة كرشياكا – أزمير في تركيا، والاسم مشتق من بطل مسلسل “وادي الذئاب” التركيّ مراد بولات.

في تصريح لموقع إرم نيوز، قال المقدم بالجيش الليبيّ سليمان الشارف: إنّ قوات الجيش نفذت قصفاً مدفعيّاً على غرفة عمليات تابعة للضباط الأتراك في محور الساعدية، أسفر عن مقتل سبعةعناصر، بينهم ضابطان. وأشار الشارف إلى أن من بين “القتلى الأتراك أحد العناصر المهمة بصفوف المرتزقة، وذو تاريخ حافل في سوريا والعراق، وفي مناطق الأكراد، يدعى مراد بولات، الشهير بـ”سفاح عفرين”.

وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بمواجهة وباء الكورونا يستمرُ قصف القرى الحدودية ومناطق الشهباء حيث يعيش أهالي عفرين المهجّرون وآخرها قصف قرية عرب حسن الذي أدى لاستشهاد طفلة.

الارتزاق الميليشاويّ هو حقيقة ما يسمّى الجيش الوطنيّ، يدافع عنهم مرتزقة القلم والسياسة الحاضنة الشعبيّة، والعلاقة بينهم تكاملٌ وليس مجردُ تعاطفٍ، وسيواصلون التهليل والاحتفال لكلّ شبر تحتله تركيا ومرتزقته، دون اعتبارٍ لحالاتِ التهجيرِ والتشريدِ وعدد الضحايا، والأمر يتعدى ذلك أيضاً فالأموالُ التي تم تحصيلها باسم “الثورة” هربها قادة المرتزقة إلى تركيا وأسسوا بها مشاريع استثماريّة في تركيا وهي مبالغ ضخمة، كان من المفترض أن تُصرفَ بالحدِّ الأدنى على من يبيتون بالعراءِ في ريف إدلب بعد العمليةِ العسكريّةِ الأخيرةِ.

من باع روحه ؟؟

هذا النموذج الذي يقاتل رافعاً علمَ العثمانيّ ولا يتورع عن ارتكابِ كلّ الانتهاكات لنيل الحظوة لدى السلطان ومن “باع روحه”، وهي ليست ظاهرة مستجدة فقد تحدثت عنهم كتب الأدب والأساطير.

 وتحكي المثيولوجيا الإغريقيّة أسطورة من شخوصها إيكاروس الذي تجاهل نصيحة والده ديدالوس فداخله الغرور والحماس وطار قريباً من الشمس، ليذوبَ جناحاه بحرارتها، ويسقطَ في البحر.

وفي حكاية أخرى تعودُ إلى للقرن السادس نجد القديس ثيوفيلوس رجلَ الدين الذي اتفق مع خصمه ليعتليَ منصباً كنسيّاً، والرمزيّة ذاتها نجدها في التراث الشعبيّ الألمانيّ ومحورها شخصية يوهان جورج فاوست وهو عالم من مدينة غونتبرغ فهجر دراسة اللاهوت إلى السحرِ، عقد اتفاقاً مع الشيطان يحصل بموجبه على كلِّ أنواعِ المتعِ والمباهج الدنيويّة والملذات على اختلافها، بمقابل تنازله الرضائيّ عن روحه للخصم”…”.

وكتب الألمانيّ يوهان فولفغانغ فون غوته، روايته الشهيرة “فاوست” عام 1808، ويصوّر فيها وصول العالم فاوست الذي استبدت به رغبة جامحة للحصول على متع الحياة وملذاتها بأيّة طريقة، وإنهاء حالة الملل والرتابة التي يعيش فيها، فيعقد ثقة مع الشيطان مضمونها الروح مقابل المتع الماديّة والجسديّة. ومن الطبيعيّ أنّ الشيطان لا يثق بالإنسان، فالكائن المستعد للتخلي عن روحه ويلحق الأذى بالأعزاء من حوله لا يمكن الوثوق بوعوه ولهذا كان العقد ضروريّاً، وبعد العقد يشرع فاوست بإمتاع نفسه بما يعتقد أنها رغبات ومباهج، دون أن يخطر له أنها آثامٌ وموبقات.

وممن تناول هذه القصة المسرحيّ كريستوفر مارلو أحد كبار أعمدة الأدب الإنكليزي في مسرحية “دكتور فوستوس” عام 1588، ومن بعده كتب المسرحيّ الروسي العملاق إنطون تشيخوف قصة بعنوان “فاوست”