بدران الحسيني
لم يكن يعرف شيئاً من هذه المرحلة (سفربرلك) ولم يجالس أحداً عاصَرَها؛ إذ ليس بالضرورة أن تعايش مرحلة ما حتى تستوعب منها العِبَر وتستخلص الدروس، فيما بعد عَلِمَ من بعض الكُتب الصفراء إنها كانت رحلة الموت المحقق، والنجاةُ منها ولادةٌ جديدة، وعَرَفَ أن الخلافة العثمانية التي تسلقت على ظهر الإسلام كانت تقود الشباب إلى الموت رغبة منها في تنفيذ مآربها التي تصب في خدمة الإمبراطورية، وليس إعلاءً للدين كما كانت تزعم؛ بل استخدمت الدين مطية لها ولباساً يخفي موبقاتها.
قرأ الكثير من الفظائع التي حدثت إبان هذه الرحلة، ورأى أن الكثير من مكونات وشعوب المناطق التي كان يحتلها العثمانيون ذهبت ضحية توطيد عرش السلطان وتوسيعه، ولم يكن هناك فرق بين عربي أو كردي أو سرياني أو أرمني في رحلة الموت هذه. بدا عليه ملامح الغضب والامتعاض، تقلّب نحو اليمين ونحو اليسار، لم يعرف من أين وكيف سيكتب عن سفربرلك الكُرد في كل المراحل؛ فهو اليوم أصبح من المثقفين، وهذا يعني أن على عاتقه حِمْلٌ ثقيلٌ أكثر من أي وقت مضى تجاه بني قومه نظراً للغُبن الذي أصاب الكرد، وأن عليه تقديم أفكار وأطروحات قد تصلح للبناء عليها في الخلاص من هذه المأساة، ويكتب عنها ويوضح الخطأ من الصواب اعتماداً على البحث والتجارب على مستواه الشخصي.
طرح الكثير من الأسئلة كتابةً على الورقةِ البيضاءَ؛ لماذا، كيف؛ ومتى؟؟ ها هي رحلة السفربرلك انتهت ومازال الكُرد سائرون فيها وعلى رقعة الشطرنج ذاتها، ويقارعون المستحيل منذ ما يقارب المئة عام، رأى أن على المثقفين التمرد على الحزبوية والإفلات من إطارها والارتقاء إلى مستوى المصلحة الكبرى، وألَّا يطبلون وينفخون في قِربَةِ هذا أو ذاك لأن الدوران في هذا المضمار يفضي إلى التسلط ويعيدك إلى نقطة البداية أو الصفر؛ فالمثقفون هم الرئة التي تتنفس منها الأمم والشعوب والمكونات لإظهار أوجاعهم ومعاناتهم، وهم الأداة التي تصوَّبُ بها الخطيئة المُهلكة.
فكَّرَ كثيراً في المرحلة الراهنة التي تمرُّ بها المنطقة؛ إنها أخطر مرحلة مصيرية؛ نعم إنها مرحلة مصيرية، لقد مرَّ على سايكس بيكو مئة عام، وقد تتشكل خرائط جديدة في المنطقة وما زال الكُرد مشتتون ومتناقضون ومتحاربون بين بعضهم البعض ومازال الكل متمسك برأيه ويقول من هنا يؤكل الكَتِفُ والآخر يخالفه، مع أن المنطق يقول إن مبدأ الأكل هو واحد سواء اُكلَ الكَتِفُ من هنا أو من هناك.
طرحَ الكثيرَ من الحلول وفكَّرَ بالكثير منها، كاد أن يمزِّقَ ما دوَّنهُ من عبارات طوابيرٌ من تعقيدات الأحزاب الكردية والصور المتناقضة شنت هجوماً على ذاكرته، ومرَّت أمامه دون أن تصيبه باليأس ولا أن تُشْعِرُهُ بالملل من محاولاته حتى توصل إلى رؤية أو آلية، كتب أمامها قد أكون مُصيباً وقد أكون مخطئاً ولكنها محاولة لترتيب البيت الكردي.
استنتجَ أن السياسة مثلها مثل مباراة كأس العالم لكرة القدم بين فريقين أو أكثر ولكنها ليست محكومة بفترة زمنية محددة، الحَكَمُ في هذه المباراة يدير اللعبة كما يشتهي وحسب رغبته ومصلحته، ويضع ضربة جزاء على هذا الفريق أو ذاك ليصفق له حكم الراية (التماس) مثلاً، وليس إرضاءً للجمهور. لكن الفارق بين المباريات السياسية ومباريات كأس العالم أن الأولى تحصل في الغُرَفِ المظلمةِ بعيداً عن الجمهور ويصعب الحُكْمُ عليها من قبل الجماهير، أما الثانية فتكون أمام الجمهور وعبر شاشات عرض كبيرة في الشوارع والميادين والمقاهي والساحات وهو الذي يَحكُمُ على أداء الفريقين وعلى أداء الحَكَمِ ذاته.
إذاً الخلل هنا يكمن في غياب الجمهور أو الشعب عن المباريات السياسية وعدم عرضها على شاشات التلفزة في البيوت والساحات والميادين؛ ليحكم هذا الجمهور المُغيَّب على أداء الفِرَق السياسية واقتراحاتها وأفكارها المقدمة لترتيب البيت الكردي أو وحدة الصف الكردي، ويحدد المسؤول عن هذا الشرخ ويلقيه في مزبلة التاريخ، والأمانة التاريخية تقتضي إظهار وكشف الطلاسم والألغاز التي تحيط بالمباريات السياسية للشعب.
ثم أعاد قراءة كل ما كتبه، ودخان سيجارته يلتوي متصاعداً ببطء شديد؛ يشبه الدخان المتصاعد من أذنيه من خطورة المرحلة، وبات يقول: حقيقةً أن الكردي واقعٌ بين نارين والكل يسنُّ سكينه على رقبته، وحلفاء اليوم لا يمكن المراهنة عليهم دائماً؛ لذا لا نجاةَ لنا من هذه العاصفة الهوجاء سوى بترتيب بيتنا الكردي في وحدة الصف والموقف، على أن يكون الشعب هو الحكم في الفرز وتصويب المسار وتحديد المُسبِّبِ في الشرخ والتصدع، وهكذا أداء خيرٌ لنا من أن نقول غداً للتاريخ كان هذا أفضل الممكنات في الوصول إليه.
