غياث نعيسة: تركيا تحاول احتلال المنطقة وعثمنتها من جديد

 تطورات متسارعة تشهدها الساحة الدولية والإقليمية، ومن جملة هذه التطورات، قرار تركيا إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، ومقتل قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، في ضربة جوية أمريكية، فهل يمكن أن يؤدي قرار تركيا إرسال قواتها إلى ليبيا إلى تخفيف تدخلها في سوريا؟ وما مدى تأثير مقتل سليماني على الأزمة السورية عموماً؟

أن تركيا هي واحدة من أكثر الدول الإمبريالية الاستعمارية شراسةً، وهي تهدف إلى سياستها التوسعية الاحتلالية للمنطقة، وسوريا هي جزء من المنظومة التي تريد احتلالها وإعادة عثمنتها من جديد، وأن الوضع الإقليمي يحتاج منا في محاولتنا لفهمه أن نضعه في السياق التاريخي للوضع العالمي برمته، وبدون ذلك يصعب علينا تفسير وفهم بعض الظواهر الإقليمية، ويجعل تعاملنا معها خاطئاً أو قاصراً تجاهه.

الأزمة العميقة ولّدت التنافس على المنقطة

جاء ذلك خلال اللقاء الذي أجرته آدار برس مع الباحث والسياسي غياث نعيسة حيث تحدث قائلاً: علينا أن نلحظ أن هنالك أزمة عميقة للنظام الاقتصادي العالمي منذ عام 2008-2009، ماتزال قائمة وكل محاولات خروج الحكومات منها تصاب بالفشل، ما يدفع إلى احتدام التنافس فيما بينها وتزايد نمو التيارات والخطابات والسياسات العنصرية والشعبوية؛ كان وصول ترامب للرئاسة الأمريكية رمزها الأكبر. تجلت الأزمة الاقتصادية والسياسية في منطقتنا بانفجار الثورات الشعبية وسلسلة من الثورات المضادة، ومن جهة أخرى، هنالك ملامح تغير واضحة في النظام العالمي، مثلاً الاقتصاد الصيني أصبح مساوياً للاقتصاد الأمريكي، الذي كان الأول، إن لم يمكن قد تجاوزه، إضافة إلى امتداد النفوذ الصيني؛ الاقتصادي والسياسي، إلى مناطق واسعة من العالم. يترافق ذلك مع تراجع موقع وقوة الولايات المتحدة، رغم هول القوة العسكرية التي تملكها، فلم تنتصر في حربها في أفغانستان، وخرجت، وإن عادت بشكل أقل لاحقاً؛ من العراق عام 2011، في الوقت نفسه استعادت روسيا دورها الدولي، واستفادت في كل مرة من فراغ القوة، الذي خلفه التراجع الأمريكي العام، حيث أثبتت عودتها مع أزمة أوكرانيا ومن ثم في سوريا والشرق الأوسط وفنزويلا وأخيراً في ليبيا.

 وأردف غياث نعيسة بقوله: تتراجع قوة الولايات وخصوصاً في منطقتنا، ولاسيما أنها تسعى لاحتواء نمو الصين كأكبر قوة في العالم، هذه الحالة أدت إلى بروز ظاهرة جديدة هي ظهور عدة دول إقليمية لها استقلالية أكبر بكثير من السابق، ولها سياسات توسعية أو ما يمكن أن نسميه إمبرياليات فرعية، في منطقتنا خلال السنوات العشر الماضية ظهرت دولتين إقليميتين كبيرتين توسعيتين في منطقتنا، تنافس، ولو بحدود، الدول الكبرى وهما إيران وتركيا. في حين نجد دولاً أخرى إقليمية هامة ولها إمكانيات مادية كبيرة ما تزال أسيرة نظام التبعية شبه الكاملة للولايات المتحدة، ما يجعلها أضعف بكثير من إيران وتركيا، فمحاولة تنافس السعودية مع إيران وتركيا، لا يبدو أنه يدفع بها للعب دور أهم وأكثر استقلالية بل يبدو أنها تمارس سياسة تقوم على مزيد من الارتهان لأمريكا، ما يجعل من قدراتها الذاتية للتحول لقوة إقليمية مركزية ومشاركتها في رسم مستقبل المنطقة محدوداً.

وتابع غياث نعيسة فقال: هنالك، إذن، إرهاصات أولية لبزوغ نظام إقليمي بل ودولي جديد لم تترسخ ملامحه تماماً بعد، يحاول القديم، وأقصد الولايات المتحدة وحلفائها، منعه من أن يكون على حسابها وحساب مصالحها، كأكبر قوة في العالم عسكرياً واقتصادياً. من بين وسائل الولايات المتحدة لمنع تزايد تدهور قوتها، هو ميلها المتزايد لتقليص كلفة تدخلاتها العسكرية بشرياً واقتصادياً، وفي الوجه الآخر، عملها على إجبار الدول الراغبة بالحصول على دعمها أن تدفع ثمن ذلك، وما يجري من الابتزاز المالي الذي يقوم به ترامب لدول الخليج، والعراق، مثال بارز على ذلك، أصبحت الإدارة الأمريكية، تدير السياسات الاستراتيجية للدولة الأمريكية وكأنها شركة استثمارية تجارية، تؤجر خدماتها.

الشعوب قامت من أجل تحررها من الظلم

وحول الوضع في سوريا والمنطقة تحدث غياث نعيسة بالقول: وضع منطقتنا حرج وقلق للغاية وغير مستقر، هنالك مستويين للتوتر، الأول هو استمرار الاحتجاجات الشعبية ضد أنظمة بالية، والثاني هو تصارع قوى إقليمية ودولية على زيادة نفوذها وسيطرتها في بلادنا. هذا الوضع، ساهم في تشويش وعي بعض القوى السياسية، فشاع وهم لدى بعضها أن هذه الدولة أو تلك من الدول الإقليمية أو الدولية هي حليف ” استراتيجي” لنا، لمجرد أنها تتنافس مع خصومها من أنظمة أو دول، هذا التخبط ليس وهماً فحسب بل هو خطأ “استراتيجي” قاتل ومدمر لكفاح شعوبنا من أجل تحررها.

وأكد غياث نعيسة بأن تركيا أردوغان هي واحدة من الدول الإقليمية الإمبريالية الأكثر شراسة، وسياساتها التوسعية وصلت إلى ليبيا فقال: تركيا الآن في مرحلة بداية زيادة الانتشار، ولذلك لا أعتقد أن تدخلها في ليبيا سيخفف من تدخلها الضار في سوريا، بيد أن زيادة الانتشار له حدوده وتكلفته الباهظة بشرياً واقتصادياً، ومع الأزمة المتفاقمة للاقتصاد التركي، والأزمة السياسية المتزايدة فيها، فإن توسعها الإقليمي، قد ينعكس سلباً على تركيا نفسها، ويهدد لاحقاً تماسكها الداخلي نفسه. ويتحقق ذلك بقدر ما تواجه السياسات التوسعية مقاومة لها، ورفع كلفة تدخلاتها وتنافسها مع الدول الإقليمية والدولية الأخرى بشرياً واقتصادياً

شعوب المنطقة تستطيع تغيير البوصلة لمصلحتها

وأضاف غياث نعيسة وقال: لم يستقر بعد حال النظام الإقليمي، ما يعني أن كل خطوة للدول والقوى السياسية تحتاج إلى قراءة دقيقة وصحيحة وتجنب ارتكاب أخطاء استراتيجية مكلفة، وتأتي حادثة اغتيال قاسم سليماني والاشتباك الأمريكي الإيراني كمثال على ما أقول على حساسية الحسابات الاستراتيجية للقوى الكبرى والإقليمية في منطقتنا. ولكني أرى بخلاف عدد ممن علقوا على حدث اغتيال سليماني ومن ثم الضربة الصاروخية الإيرانية على قواعد أمريكية في العراق، أن إيران أدارت بدهاء شديد هذه الأزمة، وأكدت أنها واحدة من الدول الإقليمية المركزية في المنطقة، وعلى الدول الكبرى أن تتعامل معها على أساس ذلك، فكل المحاولات لاحتوائها، وليس فقط من قبل الولايات المتحدة وحدها، باءت بالفشل. لذا فإني لا أعتقد ان اغتيال سليماني سيقلص من دور ونفوذ إيران في سوريا والمنطقة، بل إني أرى العكس تماماً، أن إيران، وخصوصاً بعد ردها الصاروخي على أمريكا ولو أنه لم يقتل جنوداً أمريكيين، ولكنه مليء بالمعاني والرمزية السياسية والاستراتيجية، ولاسيما إنها المرة الأولى التي تعلن دولة ما انها ستقصف الجيش الأمريكي وتفعل ذلك ولا يرد الجيش الأمريكي.

وختم الباحث والسياسي الدكتور غياث نعيسة حديثه بالقول: أخيراً، فإن كان من حق القوى السياسية التحررية الاستفادة تكتيكياً من تنافس وتصارع الدول الإقليمية والدولية في منطقتنا، لكن بشرط ألا تضيع البوصلة عن ناظريها بأن الحليف الاستراتيجي لتحررنا وأداة تحرر شعوبنا هي شعوبنا نفسها ووحدها وهي التي تستطيع تغيير البوصلة لمصلحتها