العودة

أزهر أحمد –

ما زلت أقول: إنّها لحظات في تاريخ السفهاء, وقرون في قاموس الشرفاء، لحظة تمزيق الغازي لدفاترك التي حملت بين صفحاتها ألوان براءة الطفولة، وكتبك التي لطالما حلم بها الشرفاء، ولطالما عقدت عليها الآمال، ووُضع لأجلها المناضلون خلف القضبان، ولطالما كانت شعاراً.. وهدفاً.. وأمنية، لحظات لا تنسى يا صغيرتي، وأنت تتخيلين أزيزَ الرصاص، وأصوات المدافع، وأصوات نعال الغزاة، وألسنة الدخان، وقهقهة زبانية الليل، مرداء السلطان، وهم يبعثرون ألعابك تارة، وصور رسمتيها لتكون حقيقة ما يفكر به أطفال عفرين، وأنت تتذكرين لحظات تمزيق كتبك المزينة بأحرف كردية وجمل جمعتيها من تراث أجدادك، لحظات تمزيق كتبك الملونة بالأحمر والأخضر والأصفر، وهي تحمل بين طيات صفحاتها قصصاً وحكاياتٍ بلغة والدتك؛ كل شيء هي في كتبك وأنت تنادين كم أنت جميلة لغة جدتي لغة والدتي، والتي حاول الغزاة طمسها، وأنت ترددين قصص Behlûl، وأناشيد Em zarokin وأنشودة Ez şehîdim. لحظات إطلاقك للحياة وإشراقة الشمس الأولى ROJ Baş وتارة Dem Baş، وتختمين نهارك بتقبيل يد الوالدة Şev Baş.
كلمات تعلمها الجميع، وأنت تركضين لتلتحقي بسرب أصدقائك إلى مدرستكم مرددين أنشودة HEY REQÎB ألحانكم الرائعة وصدى كلماتكم المعبرة تعيد للشارد الناسي والمتناسي حقيقته، وكأنه ماء يروي العطشى، وتعيد للأذهان أحلامهم المنسية.
وأنت تتوسَّدين بقايا صخور كرمينج وتتأملين السماء النجوم، آمال وآلام والدتك الجريحة، ووالدك المفقود، وشقيقك الشهيد، وكابوس أشباح في صور العسكر تارة، والملتحين تارة أخرى، ومرتدي ربطات عنق تتلون بلون دماء أهلك لتزيد خوفك…
كلُّ شيءٍ على غير ما يرام، فالأصوات تتمازج، ولا شيء سوى صدى أصوات الرصاص وبكاء الأطفال واستنجاد النساء وارتجاج جدران بيوت المناضلين، علمت الآن صغيرتي، لماذا يزداد صدى صوتك ثورةً لا تعرف الانتظار، وامتزاج قطرات الدمع بقطرات الدم لتحتضنها الأرض معلنةً ولادة شقائق النعمان، ولحظات مغادرة منزلك وأنت تسقطين لمرات كثيرة، لتنهضي وأنت أكثر كرها للغازي، وأقوى عزيمة على الانتقام.
يزداد صدى صوتك رعداً، ويُمسي عاصفة، وأصوات قهقهة صاحب الربطة الذي يتكلم لغة والدتك، يمتزج مع قهقهة الغازي والملتحي وأزيز الرصاص، وليتابع الجميع تمزيق دفاترك وصفحات كتابك وحقيبتك ولعل لحظات كسر قلمك الذي أهداه لك والدك المفقود كانت أصعب اللحظات ليزداد ويرتفع صوت بكائك وبكاء والدتك… كلما مزّق الأوغاد ذكرياتك… آمالك… رسومك…علاماتك… توقيع معلمتك..
صدى أصوات نتنة للغازين، كلمات بذيئة، تزيد صراخك الثائر وتتعهدين بالانتقام، ارتفاع ألسنة اللهب والدخان في مزارع الزيتون، حتى السماء تكاد تثور رعداً ومطراً ودمعاً، لحظة احتضانك لوالدتك المصرة على الانتقام، وهي تنحني لتضمك وتخبئك وتحميك، تحمل حفنة تراب زيتونة وتذرها في أعين الغزاة، لتكون لحظات تشبه يوم القيامة؛ ألسنة لهب ودخان وهتاف…كان الله دوماً ناصراً المظلومَ، ومع بزوغ خيوط الفجر والشمس الدافئة سيرحل كابوس الظلام، وتلك اليد التي تمسح دمعتك وتنظر في عينيك وتقول: لا تخافي ستعودين لعفرين، وتقبل يد والدتك وتشدها بعزم «أقسمنا سنعود جميعاً لعفرين».