الشرق الأوسط …. الأزمات والحلول الممكنة-2-

التقارير والتحقيقات

بواسطة Ronahi في ديسمبر 14, 2018 380

فيروشاه أحمد –

ماهية الثورة في مجتمعات الشرق:

أمام الكم الهائل من القضايا والإشكاليات التاريخية والاجتماعية التي تعشعش في بنية المجتمعات الشرق الأوسطية لا بد من نظريات أو أفكار تساهم في تغيير شكل المجتمعات وتحولها إلى حالة أفضل، ولا يمكن تغيير هذه الأمراض المزمنة ألا من خلال ثورة عارمة (مضادة تجاه جميع العناصر الاجتماعية المطرودة من نظام المدنية) وتبدأ هذه الثورة المضادة أولاً ضد كل التراكمات التي لحقت بالمرأة والشبيبة؛ لأن الثورة وكما يراها أوجلان هي (إعادة اكتساب المجتمع الأخلاقي والسياسي والديمقراطي لماهياته) وبشكل أرقى وأفضل مما كان عليه.

لا يمكن تغيير مجتمع من خلال شعارات أو تسميات أو حتى أيديولوجيات محددة، وقد أكدت التجارب الأخيرة التي عاشتها الشعوب في نهايات القرن العشرين بأن الفرد في المجتمع الاشتراكي لم يكن أفضل من الفرد في المجتمع الليبرالي، ولا يمكن لهذا التغيير أن يأخذ مجراه الطبيعي إلا (تأسيساً على صفة المجتمع الأخلاقي والسياسي والديمقراطي) لأنه وكحالة طبيعية لا يمكن تقليص أو إزالة الفوارق الطبقية والجنسوية في مجتمع ما إلا من خلال هذه الصيغة المجتمعية، لأنها تحمل في طياتها فرص العدل والمساواة.

خلال القرن العشرين عاشت الشعوب في الشرق الأوسط تجارب عديدة وأيديولوجيات متعدد وكأن هذه الشعوب مخابر لتجارب الأنظمة القومية والدكتاتورية، فمن النظريات الاشتراكية إلى الحداثوية وغيرها التي مُورست بحق هذه الشعوب لم تأتِ بنتائج إيجابية بقدر ما حملتها ويلات وأزمات وحروب، وهذا يؤكد بأن لا يمكن الاستغناء عن (الديمقراطية السياسية والأخلاقية).

عندما يعلن المجتمع اختياره هذه النظرية لخلاصه، فلا بد من إتباع كل الأدوات الصحيحة بالاعتماد على المنهاج السياسي لإنجاح الثورة، ويبقى العمل وفق ممارسات الميادين الأخلاقية والسياسية من أهم المبادئ باستمرار الثورة، وهذا يبعدها عن (الحداثة الرأسمالية وتجسيد العصرانية الديمقراطية) وكمبدأ لا يمكن اكتساب صفة الثوري إلا من يقوم بتفعيل هذه الأدوات إلى أفعال ويعمل بكل تفان على التوافق بين النظرية والممارسة.

آفاق الحلول الممكنة:

كل المجتمعات أو المناطق الجغرافية تحاول أن تعلن عن نفسها بأنها المركز بالنسبة للعالم وفق مقتضيات ثقافية وتاريخية، ففي الوقت الراهن باتت أوروبا تمثل هذه الصفة كونها اعتمدت على النقد والنقد الذاتي وعملت عليه في إعطاء نفسها صفة المركز، لكن يؤكد بنفس الوقت بأن الشرق مهد الحضارات والثقافات البشرية يمكن أن تجدد ذاتها بتلك الذهنية المجتمعية التي مهدت وأعطت للحضارات التالية أسس بنيانها.

في الجزئية الأخيرة يتناول القائد أوجلان الحلول الممكنة التي قد تُغير الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط من خلال قراءته للتاريخ ونقده للواقع ورسم ملامح المستقبل.

1ـ المدنية تبحث عن حلول: يؤكد أوجلان بأنه لا ينكر دور المدنيات وتأثيراتها الإيجابية على الإنسان والمجتمعات، لكن مقارنتها بالثقافة النيوليتية (النهر الأم المتدفق) فهو حتماً مفيد أكثر، فسومر في بداياتها أسست المدن في عموم بلاد ما بين النهرين فنتج في كل مدينة (فائض القيمة) مما ولَّد التنافس بين المدن وتشكلت في كل مدينة سلالة، إلى جانب زيادة في سكان كل مدينة رغم ذلك كانت الأمور تسير يشكل جيد، لكن تضييق المساحات الزراعية مقابل بناء المدن بكثرة أدخلت المنطقة أزمة حقيقية.

2 ـ العشائر تُعلن المقاومة: حين بسطت السلطة هيمنتها على المجتمع من خلال أيديولوجية وكأنها (ضرورة حتمية أو واقع إلهي) وقتها برزت تمردات وثورات عشائرية من داخل المدن، في حين عملت السلطة على سحقها بعد إعطائها صفة الوحشية، وألبست هذه الحركات صفتها(الهمجية) متناسية بأن (نظام العشيرة ـ الكومونة) تعطي للحياة صفتها الإنسانية.

ويبقى للتاريخ حقائقه وأن شوهها الملوك بانتصاراتهم الوهمية، فالتاريخ الحقيقي يكمن في (تاريخ أولئك العاجزين عن إظهار وجودهم وتدوين تاريخهم كما هو مكتوب) من خلال مقاوماتهم واختراعاتهم واكتشافاتهم المستمرة حتى الآن، وتمثلت تلك المقاومات بثلاث نماذج.

أـ القبائل السامية: ثلاث أسباب رئيسية ساهمت ببلورة المقاومة للقبائل السامية، الأولى تكمن في بناء المدن في مصر الفراعنة، والثانية في بناء المدن السومرية، والثالثة في موجة الجفاف والتصحر التي شملت المنطقة التي تسكنها تلك القبائل (من بادية الصحراء الكبرى إلى شرقي شبه الجزيرة العربية) هذه الأسباب دفعت تلك القبائل (عابيرو ـ الأناس المغبرين) بالتحرك نحو تلك المدن كضرورة حتمية ومعيشية.

كان توجه لهذه القبائل لمدن سومر أهون من مدن مصر بسبب هشاشة الدفاع لدى سومر (2350 ـ 2150) قبل الميلاد، وفي المرحلة التالية من زحف تلك القبائل كان الآشوريين والبابليين اللذان اشتهرا فيما بعد ببناء (آشور وبابل) من جماجم البشر، وترسيخ العصر العبودي، وتبقى حركات المقاومة لدى القبائل السامية غير محددة المعاني ولا يمكن تحديد موقفها كـ (مناهضة للمدنية أم متماهية ومندمجة فيها) وهذه تعد إشكالية مستمرة في توجهها، وخلقت للآن صراعاً في بنيتها.

بـ ـ الهوريين: الهوريين وتلفظ أيضاً بالخوريين أو الحوريين وهم (شعب التلال) أو (المجموعة الجبلية) تصنف هذه المجموعة ضمن الشعوب الهندو أوروبية، من قبل بعض الباحثين لكنها في الحقيقة تمتلك خصائص وتاريخ أقدم وأوفر من حيث الأصول (أي أكثر استقراراً وأهلية من جميع تلك المجموعات) كونهم سكان المنطقة منذ نهايات العصر الجليدي الرابع، ولهم الفضل في ترسيخ (وتطوير الثورة النيوليتية) ونُشرت هذه الثورة بثقافة مجتمعية في الهلال الخصيب.

كان التبادل التجاري والثقافي مع المجموعات المجاورة (آل عبيد وأوروك وأشور) قبل الألف الرابع قبل الميلاد تتمثل بالسلم، ولا يخفى بأن هجمات خارجية هددت المنطقة وشعوبها تلك الهجمات كانت بمثابة الاحتلال والغزو(عن طريق قفقاسيا بشكل خاص) ونتيجة هذا الغزو تعرضت العشائر الهورية لضغوطات متزايدة، حينها لجأوا للدفاع في كل المراحل التي تعرضوا فيها للغزوات، فكانت الكونفيدرالية الميتانية التي تشكلت من (الهوريين والميتانيين) وعاصمتها (واشو كاني 1500 ـ 1250) قبل الميلاد والدفاع ضد كل غاز أو محتل، ومن نتائج هذه الكونفيدرالية (استيلاء شعب هاتين الكونفيدراليتيين على بابل عام 1596).

يلاحظ بأن الهوريين وفي عام 2000 قبل الميلاد قد سيطروا على كامل المساحات التي يقطنها الكرد الآن، بعد أن ألحقوا الهزائم بكل (الكولونيات السومرية والبابلية والآشورية).

جـ ـ عشائر أورال: هم شعوب تنتسب بأصولها البعيدة للصينيين، لكنهم تميزوا بثقافتهم (وتناقضها مع المدنية) احتل المغول مناطقهم في الألف الأول قبل الميلاد، ولم يبقَ لهم خيار سوى المقاومة، بالمقابل تعرضت قبائل صينية للغزو من قبل الهون و(أسوار الصين تعكس هذه الحقيقة) وقد توزعت العشائر (الطورانية في المنطقة حتى الهندو إيران وأفغانستان وباكستان)، وفي القرن الخامس الميلاد وصل الهون إلى (بلاد المجر ) واقتربت من روما عام 453 ميلادي.

حركات القبائل المناهضة للمدنية تغيرت نسبياً بعد 750 ميلادي أي بعد ظهور الإسلام وبداية عهد مدنيات العصور الوسطى، حينها كان (الإسلام مناهضاً للمدنية في مطلعه) لكنه أصبح فيما بعد مركزاً للمدنية في حين أصبح العرب البدو مناهضين للمدنية، وانتشرت تسميات جديدة خلال فترة زمنية قصيرة بأن (الإسلام له الدور في التحول القومي) كون المسلمين الأوائل تحولوا من القبيلة إلى القوم فمن الضرورة تبيان اسم البلد، فالأتراك أعلنوا إسلامهم في القرن العاشر الميلادي وانقسموا إلى أتراك وتركمان مثلهم مثل العرب والبدو، والكرد والكرمانج.

التركمان لعبوا دور المناهضين للمدنية التركياتية وهذا ما يجعل بروز الصراع بين القبيلة والطبقة، بهذا الشكل بقيت الأنظمة القبلية باستمرار تواجدها عالمياً (وقد بقي على تناقض ومناهض للمدنية، وفيما بعد تحول نظام القبلية إلى (مؤسسة سلالاتية وعائلية موالية للمدنية) ويمكن اعتبار هذا التحول من أهم التغييرات التي شهدتها المجتمعات والتاريخ على حد سواء.

حين يؤرَخ التاريخ بشكله الصحيح لا بد أن يهتم أكثر بالنظام القبلي لأن كل (النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والدينية والفنية والعلمية هي ضمن أبعاد القبيلة ـ الكومون) بذات السياق تعرضت أغلب المقاومات القبلية للتراجع من خلال الخيانات التي ألمّت بها لأنها اتسمت (ببناء الحضارة المفعمة بالمساواة والحرية) لأنها وخلال آلاف السنين من المقاومة للمدنية لم ترضخ لكل قيود المدنية.

3 ـ مقاومة الدين للطبقات والمركزية:

لم تكن الأديان يوماً ما وسيلة للسلطة أو لتشكيل طبقات أو تثبيت هيمنة مركزية على رقاب الشعوب، بقدر ما هي غاية إصلاحيه بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن حين يستقر الوضع السياسي لأي دين ترى المتسلقين والانتهازيين وباسم الدين يشكلون طبقات متناحرة في المجتمع وهذا التناحر والصراع الطبقي يولّد الفوضى والأزمات والحروب.

قبل أن تتشكل الطبقات كان الدين وسيلة وغاية بنفس الوقت لكل قوم يقاوم فيه قوى الطبيعة والمركزية التي تتمثل بأعلى الهرم، من أورفا(الرها) كانت انطلاقة المقاومة التي أعلنها سيدنا إبراهيم في وجه نماردة العصر عام 1800 قبل الميلاد، تتميز أورفا بإرث ديني وتاريخي يمتد إلى خمسة عشر ألف سنة قبل الميلاد (لقد ثبت أن الأعمدة الصخرية المنتصبة الظاهرة للوسط في “حفريات غوباكلي تبه” معبد ولا يمكن تشييد هكذا نوع من المعابد دون ارتكازها إلى خلفية ثقافية) هذه معطيات مادية بأن المنطقة من نتاجات الثقافة النيوليتية.

لم تكن أورفا مدينة للطقوس والصلوات فحسب بل مركزاً للمقاومة حين تمرد إبراهيم على تقاليد المدينة المتمثلة بالصنمية (التصدي للعبودية مشروع، وتحفز عليه في الأديان الإبراهيمية الثلاثة)

وقد تميزت مقاومة السيد المسيح بأنه لم يعتمد على قومٍ ما، بقدر ما كان غايته تحقيق المساواة من خلال تحرر الإنسان من المظالم الطبقية والمركزية، وأصبحت المسيحية بمقاومتها من خلال أيديولوجيتها طريقة مثلى في انبعاث التحول الواضح على نظام المدنية المركزية، وساهمت بشكل فعال (بإفراغ الإمبراطورية الرومانية والساسانية من جوهرهما أيديولوجياً)

قد نجد نفس المعاني عند زرادشت الذي أعلن التحدي لنظام المدينة من خلال نشر ثقافة المجتمع الأخلاقي، وتمثلت بأيديولوجية في مواجهة الغزو والهيمنة الأشورية (الردود الأيديولوجية ترى من الضرورة الحتمية أن تتسم بالأخلاقية) وهذه الضرورة الأخلاقية التي كرسها زرادشت في مقاومته لكل مظاهر المدنية، رسختها الأديان الإبراهيمية فيما بعد في أيديولوجياتها وتعاليمها فكانت بمثابة نافذة دخلت الشمس في تلك البلدان وأنارت دروب شعوبها.

الإسلام من الديانات الإبراهيمية إلى جانب اليهودية والمسيحية، لكن ما جاء به محمد كان أكثر وضوحاً من غيره فهو أبن مكة المدينة التجارية والوثنية و (التعدد الديني والثقافي) هل يمكن اعتبار محمد ثائراً ضد الطبقة الأرستقراطية التي كانت تسيطر على طرق التجارة بين اليمن والشام، إلى جانب انتشار تجارة الرقيق ووأد البنات، هذه العوامل المادية ساهمت ببروز محمد كشخصية تحررية، لكل العوامل التي وقفت عوائق أمام ثورته.

هي كانت بمثابة الحرب الأيديولوجية في بادئ الأمر ثم ما لبثت أن تحولت إلى (حرب ميدانية بين الأرستقراطية الفوقية الوثنية التقليدية المتصلبة وبين الطبقة التجارية الوسطى حديثة العهد)، لم يكن محمد يرغب في بناء دولة أو (تأسيس سلالة) رغم امتلاكه قوتين كبيرتين المادية والمعنوية، بل أعتمد على الأخلاق في بناء مجتمع جديد، من هنا يمكن الاستنتاج بأن الإسلام حركة ثقافية أخلاقية مجتمعية بامتياز.

وحتى نفهم الإسلام بشكله الصحيح أو أي حركة يمثلها لا بد أن نعود إلى مفاهيم (الإسلام المضاد بشفافية) لأن الإسلام المضاد هو (حركة ملحقة بنظام المدنية المركزية التقليدية في الشرق الأوسط) بمعنى آخر ذاك الإسلام الذي لم يطمح إلى بناء دولة مركزية بل حافظ عليها وإبقائها (كجمهورية مجتمعية) تُعنى بالثقافة والأخلاق..

ملاحظة: الجمل التي بين هلالين أقوال عبدالله أوجلان من المجلد الرابع أزمة المدنية وحل الحضارة الديمقراطية في الشرق الأوسط.