“الكوجرية”… طقوس الحل والترحال في ميزوبوتاميا

تقرير/ هيلين علي –

 يعتبر الكوجرات مجموعة سكانية  من المجتمع الكردي وأقدم المكونات  في شمال شرقي إقليم الجزيرة  وأهمها في ميزبوتاميا, حيث استوطنوا حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر في  المنطقة  التي تحيط  ببحيرة  (وان ) في شمال كردستان, وارتبط اسمهم مع الجبال والتنقل والاعتماد على الثروة الحيوانية  حيث  كانت تلك المجموعات العشائرية تقصد مناطق الجنوب في الربيع لرعي مواشيها  حيث السهول الفسيحة والغطاء النباتي، الذي يمثل غذاءً طبيعياً للمواشي, وكانت رحلاتهم تبدأ من بحيرة وان في شمال كردستان إلى  ديرك وجبل سنجار (شنكال ).

 كلمة “كوجر” تعني الذين ينتقلون من مكان إلى آخر بشكل موسمي وهي كلمة آرية الأصل وتعني سكان الجبال، وقريبة من كلمة كوجبر (Kocber) وتعني المهاجر باللغة الكردية، كما أثبتت البحوث والدراسات حول عشائر الكوجر بأنهم يشبهون الحوريين والميتانيين والكاشيين الذين هم أجداد الكرد، فالمجتمع الكوجري كسائر المجتمعات له انطباعات، وعادات وتقاليد وطقوس خاصة به.

وفي هذا الصدد كانت لنا زيارة إلى قرية بروج (قرجوخ ) التابعة لمدينة ديرك شمال شرق إقليم الجزيرة حيث جبل قرجوخ والتي تنتمي سكانها إلى المجتمع الكوجري.

الكوجرات…عبق الجبال وأصالة الماضي

” الكوجر هم أبناء الريح والجبال، في ملامحهم آثار الترحال وفي سلوكهم وعاداتهم عبق التاريخ ” هكذا بدأ الأب المسن إسماعيل محمد من قرية بروج (قرجوخ ) حديثه عن الكوجر وأردف: “على الرغم من أن الكوجر كعامة الكرد عاشوا على هامش سطور التاريخ، إلا إنهم جزء من مجتمعنا الكردي وهم مجموعة سكانية لها تقاليد وخصوصيات موروثة منذ مئات السنين، كما لهم موقع وتاريخ ملحمي في جزيرة بوطان شمال كردستان حيث يعد “زوزان هركول” مُلك للكوجر منذ مئات السنين  وحتى اليوم يسمونها بـ “هركولا ميران” نسبة إلى عشيرة ميران الكوجرية ، فقد كانوا  في الماضي رعاة متنقلين بين سلاسل الجبال والسهول وصخب المياه الهادرة في أرض ميزوبوتاميا وفي الآونة الأخيرة انتقلوا إلى حياة الاستقرار، وما زال أغلبهم يعتمد على رعي المواشي بالإضافة إلى الزراعة التي مارسوها بعد استقراهم في إقليم الجزيرة, ومناطقهم قضاء ديرك حتى تل كوجر، ولهم قراهم (بروج أو قرجوخ، كره صور, باني شكفتي، شكر خاجي، بستا سوس، طبكي، كلهي, قلدمان، سويدية، كربالات, سي كرا، كرزيرو, تل خنزير 1 وتل الخنزير 2)  ولهم قراهم في إقليم كردستان هم ( كلهي، عليوكا، ماستكا، ايسكا وطاووس ) وبعض القرى في إقليم بوطان شمال كردستان، وللمجتمع الكوجري عشائر منها: ( ميران، دوديرا، آلكا، باتوا، خيركا، طيا، موسى رشا، علكا، كجان ) ويذكر الأسلاف أن بعض الكوجر ينتمون في أصلهم إلى الديانة الزرداشتية

التنقل وحب الطبيعة سمة لحياة الكوجرات

ويضيف الأب أسماعيل محمد عن بعض الطقوس والعادات في المجتمع الكوجري: ” المجتمع الكوجري يتمتع بخصائص كثيرة منها حب التنقل بين” دشت و زوزان” أي المصايف والجبل، حيت يربطهم بطبيعة كردستان علاقة مقدسة وطقوس خاصة في الحياة العشائرية، كما يتميزون بالشهامة والكرم والضيافة، و يملكون ثروة حيوانية كبيرة كما أنهم موهوبون في رعاية الحيوانات كالغنم والماعز وعند الأعياد والمناسبات تعتبر عادة إهداء الحيوانات وجمع المال لمساعدة بعضهم البعض من قبل أهالي القرى من التقاليد العريقة، كما انهم يعتبرون إجمالاً من الطبقات الأرستقراطية حيث كانوا موضع اعتبار في المجتمع ولهم مواقفهم العظيمة كباقي العشائر الكردية في ظل الانتداب الفرنسي على سوريا وطموحهم في الحرية والاستقلال في عهد الاحتلال العثماني في جزيرة بوطان قبل استقرارهم في ديرك بإقليم الجزيرة، ولهم لهجتهم الكوجرية  الخاصة بهم و التي تختلف عن باقي اللهجات وعن اللهجة الديمانية التي ورثوها من جبال ومصايف بوطان و حافظوا عليها، أيضا لهم فلكلورهم الخاص الذي يتضمن الرقص والغناء البوطاني مثل (حيرانوك وسرلوك ) والأزياء الشعبية المتنوعة الخاصة.

وللكاتب الشهيد حسين كوجر “هركول” وصف آخر في هذا السياق، حيث قال: ” الفلكلور الكوجري له نكهة خاصة يشعر الإنسان من خلالها بأنه موجود في طبيعة حية محاطة بالأزهار والنباتات والحيوانات الأليفة ويشعر أيضاً بأنه في الهواء الطلق لا تحيط به قيود مصطنعة، بل يعيش في حرية طبيعية وعفوية تهيج في ذاته العميقة عواطف نقية لا يعرف معناها بوضوح”

المرأة الكوجرية…منظمة الحياة وسر الحب الأبدي

أما بالنسبة للمرأة الكوجرية وما تمثله من أساس في الحياة الطبيعية والوجود ودورها الأساسي في المجتمع الكوجري  تقول الأم  نازو إبراهيم: ” لا زلنا نحمل في جوانحنا عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا الاجتماعية التي جاء بها أجدادنا من موطننا الأصلي في شمال كردستان،  فالمرأة الكوجرية  تختلف عن باقي النسوة في المدينة ففي تنظيم الحياة، لها سلطتها وحريتها المطلقة في أن تمارس نمط حياتها التقليدية بعيدة عن مؤثرات المدينة، وهناك بعض الأسر التي تعرف بأسماء النساء لمكانة المرأة في العائلة الكوجرية،  ففي المجتمع الكوجري هي العنصر المنتج والفاعل الحقيقي حيث ما زالت غالبيتهن تجد في القرية أكثر من مصدر للرزق  فثمة رعي الماشية والبحث عن الأعشاب النباتية فوق رؤوس الجبال وعند الجداول والأنهار بالإضافة إلى حلب الاغنام والماعز وصنع أشكال وأنواع متعددة من الغذاء منها الأجبان والألبان والسمن والزبدة وبيعها للأسواق في المدن والعمل في الفلاحة أيضاً، كما تجيد المرأة الكوجرية الطبخ الشعبي الخاص بمجتمعها وتتمسك بعضهن بثيابها التقليدية الخاصة، ولا تزال “الجدات”  تحفظ حكايات الأجداد في الترحال والتنقل بين السهول والجبال”.

 للمجتمع الكوجري تاريخ، حكايات وطقوس على مدى العقود لا يمكن أن تلخص في بعض السطور، بل هي حكايات وقصص تطول لتحكي عن تاريخ عريق وأصالة تتجذر بالأرض.