زيتونة في القلب

أزهر أحمد –

ما زلت أقول إنها لحظاتٌ في تاريخ السفهاء، وقرونٌ في تاريخ الأوفياء، وجرحٌ في قلوبهم ودمعة في أعين الفقراء، لحظة خروجكِ جدتي من مدخل عفرين متعثرةً, لحظة فراقك لشجرات الزيتون في بستانك الكئيب, ولشجرات زيتون في أرض دارك, كم كانت تثور في وجه قساوة القدر، تتصدى لحرارة الشمس لتكون ظلاً تلم كل من تحبين، وتعاند الجوع لتهديك زيتاً وزيتوناً، لحظات الغسق تهديك الدفء في أيام البرد القارس نارٌ تجمع الأحبة فتعزف موسيقا عفواً سيمفونية رائعة, لحظات احتراق أغصانك الراحلة، وتغطي زيتونة دارك، سقف منزلك المهدوم بتحملها تارة، وتحميها تارة أخرى، وعندما يشتد بك الألم يا جدتي يسعفك زيتها، ليُعيد إليك لحظات النشوة.
حتى تنورك الصغير بات يتألم بجانب قن دجاجاتك الخائفة الجريحة، لم تعد قادرة على البيض، تنورك الصغير بات يعشق بقايا أغصان الزيتون لتداعب ألسنة النار كتل العجين القادمة من سهول عفرين، فتثور وتتمرد على الجوع رغيفاً أبيضاً مُحمراً حنطياً، يجمع رائحته كل الأحبة وتنساب رائحة الخبز مع نسيم الصباح وتعود دون تكليف.
أعرف أنها لحظات قاسية جدتي؛ فراقك لقبر زوجك الذي كان يقاسمك الفرح والترح، وأنت تتذكرين كلامه عندما كان يردد عبارته الشهيرة «كلّ شيء سيزول سيموت إلا هذه الزيتونة باقية» وهو يسقيها… يقلّمها… يحرث ترابها، وأنت تتذكرين من زرع الزيتونة، من شاركك في بناء لبنات بيتك المهدوم الصغير الكبير، لحظات احتضانك لصورة ابنك الرافض لقصور العبودية، ترفعينه تارة؛ وتقبلينه تارة أخرى، وأنت تتهامسين معه لتكرري التمعن والبكاء ماسحة قطرات دمعك من فوق زجاج صورة الراحل الشهيد، لحظات تمعنك في زيتوناتك المحروقة، حتى البقرة حزينة تركتيها في أرض الدار، لم تعد تقوى على الخوار، والتنور بردت النيران فيه بل تلاشت، فارق من كان يحب من نسوة يجتمعن كلَّ صباح مع روايات ما كان يخبِّئه ظلام الليل بين طياته، أتأملك وعكازتك المصنوعة من زيتونة زرعها زوجُك عفواً شريكك وسقاها أطفالك ماءً تارة ودماً تارة أخرى.
نظراتك إلى ما هو موجود هناك خلف الأفق… أطلال مهدمة، أشلاءٌ مبعثرة ودماء، دخان وأنين صوت الجرحى يتلاقى مع أنين صوت المعَذبين… فتزداد نظراتك انتقاماً أكثر فأكثر، فيزداد احترامي لك أيتها الجدة الراحلة العائدة، أقبل يديك، أمسح دمعك، أستمدُّ إرادتي من عشقك للماضي، نظراتك إلى مزار الشهداء، عشقك للحقيقة وأنت تقبلين تلك الصورة ترفعينها، تضربين بعكازتك صخوراً صغيرة تركت مكانها وكأنك تريدين الانتقام، وتزداد نبرات صوتك كلما أمعنت النظر إلى عفرين، إلى الأطلال, إلى صورة ابنك الشهيد، نبرات صوتك أيَّتُها الجدة وأنت تكررين سنعود… سنعود… سنعود يا عفرين يداوي ما تركه الأوغاد من جرح في جسدي وفكري فألملم وريقاتي وأُقبِّل ترابَ عفرين وأنا أكثر إصراراً على الانتقام وأكرِّر ما قلته… يا لها من لحظات في تاريخ السفهاء وتاريخ طويل في قاموس الشرفاء.
يرحل طاغٍ، ويموت جبّارٌ، ويصدحُ صوتُ مغنٍ من خلف التلال ويتردد صوته في الوادي العميق، ويبقى زيتونك رمز العطاء، ورائحة خبزك وضحكتك تشبع الروح.