ضفـاف المعرفة/ الكتاب: مملكة الماء والغرانيق/ الكاتب: حسين محمد علي

عبد الرحمن محمد –

وكأنما كان على كوباني أن تمر بكل ذلك المخاض العسير كي تلد ذاتها من جديد، كوباني التي كانت على مدى قرن غافية على مرمى حجر بالقرب من الشريط الحدودي المصطنع بين باكور وروج آفا، المدينة التي ربما لم تمتلك التاريخ الطويل المديد في وجودها ونشوئها، ولكنها جمعت قلوب العالم حولها وشدَّت مشاعرهم وناظرهم إليها بعد أن أراد لها غربان الظلام الموت الزؤام.

آلاف القصص والقصائد؛ وكذلك الروايات كتبت حول كوباني ومقاومتها وبطولاتها التي عرفتها إلى العالم، بل أن كوباني أصبح المثل والرمز في مسيرة الشعوب نحو الحرية والخلاص والحرية، ولعل كتاب كوباني مملكة الغرانيق والماء كان من تلك النتاجات التي كان مخاض كوباني سبباً في نشره ليكون من الكتب القليلة التي تضم الكثير من التاريخ والثقافة والأدب والفلكلور والشعر في كوباني، سيما وإن الكاتب ابن كوباني العاشق لها حتى الثمالة وقد أمضى عمره في أحيائها وأزقتها وبين أهله وأحبته من سكانها.

في الكتاب الذي جاء في حوالي المائة وستين صفحة، من القطع المتوسط ومن إصدارات اتحاد المثقفين في كوباني، ينثر لنا الكاتب أوراق أيام كوبانية بامتياز تتوزع بين التاريخ والجغرافيا ومفردات الزمان والمكان، وبين تاريخ المدينة وجغرافيتها الطبيعية والسكانية، وأدبها الشعبي وتراثها العريق الذي يتجاوز تاريخ المدينة بآلاف السنين، ومن ثم يعرج على صفحات يومياتها في حواريها ومقاهيها وينابيع الماء فيها، وقصص الصبايا التي ترد النبع وقصص الرعاة مع الذئاب في ربوع سهول كوباني.

في تاريخ المدينة يقول الكاتب وتحت عنوان المخاض والولادة قطار الشرق السريع: “ليس للمدن في هذا العالم شهادات ميلاد واضحة، وقلما تربط الولادة بتواريخ في هذا الشرق، وحدها كوباني كانت على موعد مع الزمن فتحت عينيها-كما يقال- على إيقاع طبول الحرب الأولى حيث الدول الضاربة بسياساتها الكونية الكاسحة تشحذ أنيابها، في فورة الدم القادم مع الحرب”.

تفاصيل جميلة مُضمخة بعطر الأيام الخوالي يوردها محمد علي في تفاصيل يوميات كوباني ، يتحدث عن أحلام الطفولة والمحطة والمخفر الفرنسي، عن تلك البيوت التي كانت تروى فيها كل مساء الأحاجي والأساطير: (أكثر المشاهد سحراً في منطقة المحطة والتي ما زالت حاضرة في الذاكرة كان المخفر الفرنسي المتهدم بأساساته الأربعة المبنية من الحجر الأسود وخرائب الغرف الملحقة به مبنية من اللبن “كلبيج”، وكنا نسمي المخفر “قشلة” وهي تسمية تركية تعني الثكنة العسكرية، وباللصق منه جامع حج شامليان باجوائة الظليلة وعرائش العنب وأشجار التوت وبئره الطافحة بالماء…).

لوحات جميلة متنوعة مزركشة بألوان كوباني، يرسمها حسين محمد علي، يغمضُ عينيه ويفتحهما من جديد وكأنما يهمس… آه تذكرت؛ ويورد قصة أخرى شيخ شكروا، النيرفانا الأخيرة… تصوفه ومريديه وطريقته الصوفية، والسيوف ونصال السكاكين والدفوف بإيقاعاتها الروحية، ليجلب لذاكرته شيخ نور بعباءته التي جمعها من مئات الرقع لتبدو مزركشة بأطياف وألون تمزج كل أطياف قوس قزح، وتسبيحاته وترانيمه الدينية ودندناته لروحة المتعبة، ليعرج على شرطي مرتش فُضح أمره؛ فسرح من وظيفته، فأبى العودة إلى بلدته في إدلب القريبة صوناً لسمعته ولا ينسى أن يعرفنا بـ “أوسيب هرزو” المليس الوكيل المهرب، الصورة القاتمة للمتعامل المتآمر مع الدخيل والمستعمر، الذي أذاق من حوله الأمرين بجبرونه وطغيانه: (مرة في غاراته الجهنمية داهم قرية ميناس ووزع الأكياس لتملأ بتبن العدس، كان “هيركو” المسحوق الدرويش منكباً على وجهه متمدداً في الظل، تقدم منه أوسيب الجبار وأسقط عليه “لبنة- كلبيج” انتفض هيركو واقفاً. وفي ردة سريعة صفع أوسيب على عينه اليمنى وأتبعها بصفعة على اليسرى، وكان نصيب هيركو ضرباً لم ينسه طيلة عمره….)

مملكة الماء والغرانيق…كوباني التي عانت ما عانت من العطش والفرات منها على مرمى حجر كما يقول الكاتب، ويورد أمثلة على الجشع وغياب الإرادة في إيجاد حلول جذرية حينها: (سهل سروج القريب تشقق جلده من العطش، والفرات على مرمى حجر، إن أكثر من خمسين ألف هكتار من الأرض غدت خارج عملياً خارج الانتاج والعطاء بسبب زحف الجفاف…).

كوباني مملكة الماء والغرانيق مشوار كاتب فذ بأسلوب جميل بين أحياء كوباني وصفحات من فنها وأدبها وماضيها وحاضرها جديرة بالقراءة، بالإضافة لعشرات الصور النادرة التي التقطها الكاتب بعدسته، كتاب كثير الفائدة لما يضمه من معلومة وإطلاله على أوراق مدينة شغلت العالم.

أما الكاتب حسين محمد علي فهو ابن كوباني الذي فتح عينيه على الحياة فيها عام 1950م. حاصل على إجازة في الأدب العربي وعمل مدرساً للغة العربية، يكتب الشعر والقصة القصيرة والمقالة، وله الكثير من الأعمال المخطوطة، وما يزال من الشخصيات الفاعلة والبارزة في الوسط الثقافي في شمال سوريا.